المزمور الثالث[ صلاة باكر ]
هذا المزمور هو مزمور عتاب مع الله ، كما في قوله: { يا رب لماذا ؟ } . وهو مزمور شكوى ، كما في قوله : { كثر الذين يحزنونني . كثيرون يقولون لنفسي : ليس له خلاص بإله } وهو أيضاً مزمور استغاثة كقوله { قم يا رب خلصني يا ألهي } . وهو كذلك إيمان حيث يقول : { لا أخاف من ربوات الجموع المحيطين بي } . وهو يتحدث في صلاته عن خبراته الروحية فيقول
{ بصوتي إلي الرب صرخت ، فاستجاب لي من جبل قدسه } . والمزمور أيضاً فيه ثقة واتكال على الله ، إذ يقول { للرب الخلاص وعلى شعبه بركته } . ويسترجع مع الرب ذكرياته فيقول : { ضربت كل من يعادينني باطلاً . أسنان الخطاة سحقتها } . ومع أنه يبدأ بالشكوى والعتاب والاستغاثة إلا أنه ينتهي بالتهليل ( هللويا ) إذ يتذكر أعمال الله معه .
ويصلح هذا المزمور لكل من هو في ضيقة من أعدائه ، ولكل من هو مضغوط من حروبه الروحية .
وهو أيضاً نبوءة عن السيد المسيح في الأمه وموته وقيامته …
وسنتناوله الآن أية أية في تطبيقه الروحي على النفس البشرية .
أنه يبدأ فيقول :
أنه عتاب مع الله … لماذا يا رب ؟ لماذا يحدث لي كل هذا ؟ ! كيف يحدث هذا وأنت موجود ؟!
كثير من الناس إن قلت لهم لماذا يحدث لي منكم هذا ؟ يغضبون ويتضايقون . ولكن الله نقول له لماذا ؟ فيتسع صدره لكل ما نقول ….
داود النبي ، كثر الذين يحزنونه ، فلم يعاتبهم . وإنما عاتب الله نفسه …
لماذا يا رب أجد هذا الحزن ؟ لماذا كثر الذين يحزنونني ؟ أليسوا جميعهم في قبضة يديك ؟ ألست أنت ضابط الكل ؟ لماذا تسمح بكل هذا ، وأنا في رعايتك وفي حمايتك ؟ !
ما أكثر عتاب داود مع الله . ! لعلها إحدى الميزات التي تتميز بها المزامير ….
انظروا مثلاً الدالة التي يتكلم بها في المزمور العاشر ، فيقول للرب معاتباً :
}يا رب لماذا تقف بعيداً ؟ ! لماذا تختفي في أزمنة الضيق ؟ ! { ( مز 10 : 1 )
ربما لو قلنا هذه العبارة لأحد أصدقائنا من البشر ، لا يحتملها … ! ولكن الله يقبل هذا الكلام …. وعبده داود عنده الجرأة أن يقول { يا رب لماذا ؟ } .
ويكمل داود عتابه فيقول : { في كبرياء الشرير ، يحترق المسكين… والخاطف يجدف ، يهين الرب … كل أفكاره أنه لا إله . ويتابع داود عتابه فيقول { قم يا رب يا الله ارفع يدك . لا تنس المساكين ..}
لماذا يا رب تختفي وقت الضيق ؟ قم . اعمل خلص رعيتك . لماذا يقولون لا إله ! أو لماذا يقولون :
{ ليس له خلاص بإله } ؟ ! { تأوه الودعاء . قد سمعت يا رب } ( مز 10 : 17 ) .
إنه إنسان يكلم الله بصراحة ، ويعاتبه ..
لماذا نبحث عنك في وقت الضيق ، فلا نجدك ؟! وكأنك تقف بعيداً ، وكأننا لسنا من أولادك ، والله يقبل كل هذا الكلام … على الرغم من أنه يعمل ، ولكننا نحن الذين لا نبصر عمله …
ويعود داود ليقول { يا رب لماذا ؟ } في ( المزمور 44 )، حيث يصف متاعبه ، ويعاتب الرب قائلاً : { قد رفضتنا وأخجلتنا } إلي أن يقول للرب في نفس المزمور ( مز 44 : 12 ) :
} بعت شعبك بغير مال ، وما ربحت بثمنهم { .
{ اليوم كله خجلي أمامي ، وخزى وجهي قد غطاني ، ومن صوت المعير والشاتم ، من وجه عدو منتقم } . ويختم داود عتابه بقوله :
} استيقظ . لماذا يا رب تتغافى ؟ أنتبه .. لماذا تحجب وجهك وتنسى مذلتنا وضيقتنا .. {
( مز 44 : 23 ، 24 )
أن داود يفتح فلبه لله ، ويشرح مشاعره كما هي . لا يتصنع كلاماً …
إن شكر يشكر من عمق قلبه وهو مبتهج . أما إن كان متضايقاً ، فإنه يعاتب .. وفي ل ذلك لا يغضب الله من صراحته ولا من عتابه . بل أن السيد المسيح له المجد يقول عن مزامير داود :
قال داود بالروح ( مت 22 : 43 ) .
عتاب داود لله يدل على آمرين : محبة الله وسعة صدره من جهة ، وجرأة داود وصراحته ودالته من جهة أخرى ..
ويعود داود في ( المزمور 74 ) فيقول للرب : ( لماذا ؟ ) مرة أخرى { لماذا رفضتنا يا الله إلي الأبد ؟ لماذا يدخن غضبك على غنم مرعاك ؟ .. حتى متى يا الله يعير المقاوم ، ويهين العدو أسمك إلي الغاية ؟ لماذا ترد يدك ويمينك ؟ ! } ( مز 74 : 1 ، 10 )
ثم يقول :
} لا تسلم للوحوش نفس يمامتك { ( مز 74 : 19 )
ثم يختم عتابه بقوله : { قم يا الله . أقم دعواك . أذكر تعيير الجاهل إياك اليوم كله .. } إنه يعتبر تعبيرات الجاهل تعبيرات لله نفسه . لأنه لو كان الله قد قام وأنقذ ، ما كان العدو الجاهل يفعل هذا كله ...
وفي ( المزمور 79 ) يقول داود للرب معاتباً : { اللهم أن الأمم قد دخلوا ميراثك ، نجسوا هيكل قدسك } ( مز 79 : 1 ) ... . { إلي متى يا رب تغضب كل الغضب ، وتتقد كالنار غيرتك ... لا تذكر علينا ذنوب الأولين } إلي أن يقول للرب :
} لماذا يقول الأمم أين هو إلههم { ( مز 79 : 10 ) .
وهنا لا يعاتب الرب فقط على تعديات الأمم وتعبيراتهم ، إنما يعاتبه أيضاً على غضبه
لولا أنك يا رب غضبت علينا وتركتنا ، ما كان الأمم يفعلون بنا كل هذا ... إذن لماذا يا رب تغضب ، فلماذا يستمر غضبك { أعنا يا الله وخلصنا من أجل أسمك نحن شعبك وغنم رعايتك } ( مز 79 : 9 ، 13 ) ...
ونفس العتاب ، ونفس كلمة لماذا ؟ يتكرر في ( مزمور 80 ) وفي ( مزمور 88 ) حيث يقول داود : { يا رب الجنود ، إلي متى تدخن على صلاة شعبك ؟ } إلي أن يقول معاتباً :
} قد أطعمتهم خبز الدموع ، وسقيتهم الدموع بالكيل {
جعلتنا نزاعاً عند جيراننا ، وأعداؤنا يستهزئون ( مز 80 : 4 -6) . ويختم العتاب في هذا المزمور بقوله : { أرجع . اطلع من السماء ... أنر بوجهك علينا فنخلص }
6- ويقول داود معاتباً الرب في ( المزمور 88 ) .
} لماذا يا رب ترفض نفسي ؟ لماذا تحجب وجهك عني { ( مز 88 : 14 )
هذا المزمور بالذات مملوء بالعتاب ، حيث يقول للرب : { على استقر غضبك . وبكل تياراتك أذللتني }
( مز 88 : 7 ) { أبعدت عني معافى ... عيني ذابت من الذل . دعوتك يا رب كل يوم بسطت إليك يدى . أفلعلك للأموات تصنع عجائب ... لماذا يا رب ترفض ... }
ما أكثر العتاب في مزامير داود . لسنا نستطيع أن نحصيه في هذا المجال . لكننا نود أن نحتم اقتباسنا من داود بقوله في ( المزمور 89 ) :
} حتى متى يا رب تختبئ كل الاختباء ؟ ! حتى متى يتقد كالنار غضبك ؟ .. أين مراحمك الأولى .. ؟
( مز89 :46، 47 ) .
إنه يذكرنا أيضاً بما قاله في المزمور التسعين : { ارجع يا رب حتي متي ؟ 000 فرحنا كالأيام التي فيها أذللتنا ، كالسنين التي رأينا فيها شرا } ( مز 90 : 13 ، 15 ) .
هذا العتاب ، و هذه الصراحة ، و عبارة (( يا رب لماذا ؟ )) 000 ليس هذا كله موجودا في مزامير داود فقط ، إنما نجد هذا الأسلوب في أسفار أخري في الكتاب المقدس ، وعند أنبياء و قدس كثيرين 000
انظروا إلى ارميا النبي يعاتب الرب ، ويقول له أيضا : لماذا 000 وذلك في قولة { أبر أنت يا رب من أن أخاصمك . و لكني أكلمك من جهة أحكامك : لماذا تنجح طريق الأشرار . اطمأن كل الغادرين غدرا } ( إر 12 : 1 )
إني أعجب من التراب و الرماد ، حينما يناقش الله في أحكامه ، ويقول له لماذا ؟ ! حقا إن القديس بولس الرسول يقول: { يا لعمق غني الله و حكمته وعلمه 0 ما أبعد أحكامه عن الفحص ، وطرقه عن الاستقصاء لانة من عرف فكر الرب ، أو من صار له مشيرا ؟ ! } ( رو 11 : 33 ، 34 ) .
ولكن ارميا النبي يقول هنا للرب : أكلمك من جهة أحكامك : لماذا ..؟
إنه شئ يا رب لم استطع أن أفهمه . شئ غريب أنك تترك الأشرار هكذا ينجحون { غرستهم فأصلوا . نموا وأثمروا ثمراً } { حتى متى تنوح الأرض ، وييبس عشب كل الحقل من شر الساكنين فيها ؟ !} ( أر12 :2،4)
لماذا يا رب يحدث هذا ؟ لماذا ينجح الأشرار ؟ أين عدلك ؟ أين محبتك للصلاح ؟!
أعطيني حلاً . أعطيني تفسيراً . أشرح لي أحكامك . { فهمني حقوقك . عرفني طرقك . أكشف عن عيني فأرى 000 } ( مز 119) . أريد أن أفهم ، على قدر ما يستطيع عقلي أن يفهم ، لماذا تنجح طريق الأشرار ؟!
والرب يقبل هذا العتاب في هدوء . ويشرحه في موضع أخر : الأشرار كالدخان الذي يرتفع إلي فوق ، وفيما يرتفع يضمحل ويتبدد ، وتنظر إليه فلا تجده : { بعد قليل لا يكون الشرير . تتطلع إلي مكانه فلا يكون 000لأن الأشرار يهلكون .. فنوا ، كالدخان فنوا } ( مز 37 : 10 ، 20 )
الله غير المحدود غير المدرك ، يفتح صدره ، ويتفاهم مع أولاده ، حينما يقولون : لماذا ؟
2- نفس عبارة لماذا ، قالتها عذراء النشيد :
أنها تعاتب الرب الذي تحبه بقولها { أخبرني يا من تحبه نفسي أين ترعي .. لماذا أنا أكون كمقنعة عند قطعان أصحابك } ( نش 1 : 7 ) . والرب لا يتضايق من عتابها بل يقول لها : { أن لم تعرفي .. فأخرجي على أثار الغنم } .. تتبعي خطوات القديسين ..
3- مثال أخر ، مفتوح القلب جداً في العتاب مع الله ذلك هو أيوب الصديق ..
أنه يعاتب الرب في جرأة عجيبة ، ويستخدم أيضاً عبارة { لماذا ؟} فيقول له: { أشكو بمرارة نفسي . أبحر أنا أم تنين ، حتى جعلت على حارساً ؟ } { كف عني } ( أى 7 : 11 ، 12 ، 16 ) أى إنسان منا ، لو قال عبارة { كف عني } لصديق له ربما ما كان يحتملها منه ولكن أيوب الصديق يقولها لله نفسه ، ويتابع عتابه قائلاً : لآ حتى متى لا تلتفت عنى ولا ترخيني ، ريثما أبلع ريقي } ( أى 7 : 19 ) . ثم يقولها بعدها :
} أخطأت ؟ ماذا أفعل لك يا رقيب الناس {
{ لماذا جعلتني عاثوراً لنفسك ، حتى أكون على نفسي حملاً ؟ ولماذا لا تغفر ذنبي ولا تزيل أثمي ؟ } ( أى 7 : 20 ، 21 ) .
من يستطيع أن يقول كلاماً مثل هذا لأحد من الناس ؟ ولكن أيوب في عتابه مع الله يقول له أكثر من هذا بكثير ؟ انه يقول له
} لا تستذنبني . فهمني لماذا تخاصمني ؟ { ( أى 10 : 2 )
{ أخاف من كل أوجاعي ، عالماً أنك لا تبرئني . أنا مستذنب ، فلماذا أتعب عبثاً . لو اغتسلت بالثلج ، ونظفت يدي بالأشنان ، فأنك في النقع تغمسني ، حتى تكرهني ثيابي } ( أى 9 : 28 – 30 )
أتظنوا أن الله غضب من هذا العتاب ؟ كلا .
بل أن الله في أخر السفر ، حينما وبخ أصحاب أيوب الثلاثة الذين كانوا يثيرون نفسه المرة بالاتهامات الباطلة ، قال لهم : { لم تقولوا في الثواب كعبدي أيوب } ( أى 42 : 7 )
صدقوني لو لم تكن في هذا المزمور الثالث سوى عبارة } يا رب لماذا { لكانت كافية ، كعبارة معزية لنا ، تعلمنا العتاب مع الله ..
انظروا كيف أن أيوب الصديق يقول : { أبعد يديك عني ولا تدع هيبتك ترعبني .. أتكلم فتجاوبني .. اعلمني ذنبي وخطيتي لماذا تحجب وجهك ، وتحسبني عدواً لك ؟ أترعب ورقة مندفعة ، وتطارد قشاً يابساً ؟! }
( أى 13 : 21 ـ 25 )
وألهنا الطيب لا يتضايق من عتاب أيوب .
ولا يعتبر المناقشة معه إقلاقاً لكرامته . كلا ، بل أن الله يحب أن نتكلم معه ونناقشه ، ويفرح بهذا ويسر ، لأن هذا العتاب دليل المحبة والدالة .
وأحياناً يفتح الله مجالاً للعتاب :
مثلما فعل مع أبينا إبراهيم ، حينما فتح معه موضوع إهلاك سادوم ، وقال له إبراهيم : { أفتهلك البار مع الأثيم ؟! .. حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر .. حاشا لك أديان الأرض كلها لا يصنع عدلاً ؟ } ( تك 18 : 23 ـ 25 )
وفعل هذا أيضاً مع موسى النبي ، حينما غضب الرب على الشعب لعبادتهم العجل الذهبي فقرر إهلاكهم . وكلم موسى في الأمر فعاتبه موسى بنفس العبارة : { يا رب لماذا ؟ } وقال له { لماذا يحمي غضبك على شعبك الذي أخرجته من مصر بقوة عظيمة ؟ .. لماذا يتكلم المصريون قائلين أخرجهم بخبث ليقتلهم في الجبال .. ارجع عن حمو غضبك وأندم على الشر بشعبك } ( خر 32 : 11 ، 12 )
القديسون يناقشون الله . ولكن هوذا أمر أخر :
الله يدعو إلي هذا النقاش ويقول نتحاجج ـ يقول الرب :
} إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج {.. (إش18:1)
إن الذين يهربون من وجه الله خائفين ، واضح أنه ليس فيهم الحب ولا الدالة . لقد هرب أدم من وجه الله وأختبأ خائفاً ، ولكن الله دعاه ليسأله ويكلمه . وهرب يونان من وجه الله ، ولكن الله دعاه وكلمه وعاتبه . وشرح المر وأقنعه ( يو 4 ) .
لا مانع إذن من أن نقول لله } يا رب لماذا ؟{ مثلما قال داود في المزمور الثالث .
في الحقيقة يا أخوتي أن داود النبي ، حينما قال هذا المزمور كان يجتاز مأساة نفسية وعائلية ، بل أيضاً تجربة تهدد ملكه ، وربما تهدد حياته أيضاً ..
قاله وهو هارب من أبنه أبشالوم ، الذي تمرد عليه ، وأراد الاستيلاء على المملكة ..
والكتاب يشرح هذه القصة في عبارات مؤثرة قال فيها الوحي الإلهي { وأما داود فصعد في مصعد جبل الزيتون . كما يصعد باكياً ، ورأسه مغطى ، ويمشى حافياً وجميع الشعب الذين معه ، غطوا كل واحد رأسه ، وكانوا يصعدون وهم يبكون } ( 2صم 15 :30 ) .
واخبروا داود أن مستشاره أخيتوفل قد اشترك في الفتنة مع أبشالوم بكل ما له من دهاء ومن معرفة بأسلوب داود . كذلك شمعي بن جيرا لاقي داود في الطريق ، وكان يشتمه ويرشقه بالحجارة قائلاً له { أخرج أخرج يا رجل الدماء ورجل بليعال } ( 2صم 16 :5 ـ 7 ) .. { وكان الشعب لا يزال يتزايد مع أبشالوم } (2صم 15 : 12 ) . ودخل أبشالوم أورشليم هو وكل الشعب الذين معه . وبناء على مشورة أخيتوفل { دخل أبشالوم إلي سراري أبيه أمام جميع إسرائيل } ( 2 صم 16 : 15 ،22 ) . وهكذا كثر الذين يحزنون داود ، وأنقسم عليه كثيرين من شعبه وخانوه فوقف يرتل ويقول :
{
( كثر الذين يحزنونني} { كثيرون قاموا على }
أو كما قال الشاعر ، عند كثرة همومه في داخله :
لو كان هماً واحداً لاحتملته *** لكنه هم وثان وثالث
فلماذا يا رب كل هذا ؟ ولماذا تترك لعبدك هذا الحزن ، ولكثرة المحيطين به القائمين عليه ؟
بالذات ، بالنسبة إلي أبشالوم ، لم يخطئ إليه داود في شيء ، بل دفعته خيانته وهو ابن !
فلماذا يا رب ؟!
كيف أن هؤلاء الناس الذين هتفوا وقت الانتصار على جليات ، ينقلب فيهم كثيرون وينضمون إلي ابن خائن ، وهم يعرفون تماماً أنه خائن لأبيه ؟!
داود توجه بشكواه إلي الله نفسه ، الله القادر على كل شيء ، الذي يستطيع أن يحول الشر إلي خير ، الله الذي نفس أبشالوم في يده ، وكذلك نفس اختيوفل ، ونفس شمعي بن جيرا ، ونفوس الشعب كلها .
داود لم تستقطبه الأحزان وتعصره فيتركز فيها ، إنما ترك الأحزان واتجه إلي الله ليصلي .
متاعبه جعلته يقول يا رب .. يا رب كيف يحدث كل هذا وأنت ترى وتسمع ؟!
أنت يا رب الذي أشكو لك ، وأنت وحدك الذي تستطيع أن تعزيني وتستطيع أن تقويني وأنت تنقذني . أنت وحدك . لأن الشكوى لغير الله مذلة كما يقول المثل .. حينما أتكلم معك أجد راحة .. أجد الراحة في داخلي ، مطمئناً إلي عملك وتدخلك . وأجد الراحة أيضاً في الخارج نتيجة لعملك من أجلي . أنت الصدر الحنون الذي أتكئ عليه وأقول له لماذا ؟ أو كيف يحدث هذا ؟
لو قلت للناس لماذا تحزنونني ، لكانوا يعيروني بخطاياي ويشمتون بي ..
فهكذا فعل شمعي بن جيرا ، دون أن أقول له شيئاً .. قال شامتاً { أخرج أخرج يا رجل الدماء .. قد رد الرب عليك كل دماء بيت شاول الذي ملكت عوضاً عنه .. وها أنت واقع بشرك } ( 2صم 16 : 7 ، 8 ) .
ولعل هذه الضيقة التي أمر بها هي بسبب خطاياي .
الآن أتذكر يا رب كيف أنك أرسلت إلي ناثان النبي ، ليحمل إلي رسالة منك تقول { لماذا احتقرت كلام الرب لتعمل الشر في عينه . قد قلت أوريا الحثي بالسيف ، وأخذت آمراته لك امرأة .. والآن لا يفارق السيف بيتك .. قريبك يضطجع مع نسائك في عين هذه الشمس . قدام جميع إسرائيل } ( 2 صم 12 : 9 ـ 12 ) . أتراك عرفت لماذا كثر الذين يحزنونك ؟
ولكن داود على الرغم من خطيئته ـ يتذكر أيضاً قول ناثان النبي له :
} الرب قد نقل عنك خطيتك . لا تموت {( 2صم 12 : 13 ) .
لقد نقلها ووضعها على الحمل الذي يرفع خطايا العالم كله ( يو1 : 29 ) . إن داود يعرف تماماً قلب الله الحنون الذي هو نفسه يقول عنه : { لم يفعل معنا حسب خطايانا ولم يجازنا حسب آثامنا . لأنه مثل ارتفاع السموات فوق الأرض ، قويت رحمته على خائفيه . كبعد المشرق عن المغرب ، أبعد عنا معاصينا }
( مز103 : 10 ـ 12 ) . لذلك فإن داود يقول في مزاميره للرب :
أذكر يا رب رأفاتك ومراحمك ، فإنها ثابتة منذ الأزل . خطاياي شبابي وجهالاتي ، لا تذكر ( مز25 : 6 )
هل لا تزال تذكر لي يا رب تلك الخطية ؟! لقد تفاهمنا بشأنها ، واعتذرت لك عنها ، ونقلتها عني حسب وعدك الصادق الأمين . وأما أنا فبسببها كنت { أعوم في كل ليله سريري ، وبدموعي أبا فراشي } ( مز6 ) . فكيف تذكر لي يا رب آثامي ؟! { إن كنت للآثام راصداً يا رب ، يا رب من يثبت ؟! الآن من عندك المغفرة } (مز130 ) ( لا تدخل في المحاكمة مع عبدك فإنه لن يتزكى قدامك أى حي } ( مز142 : 2 ) .
نعم يا رب لقد كثر الذين يحزنونني . ولكن يقيناً أنت يا رب لست منهم . لأنك أنت عزائي وخلاصي
لذلك فأنني في وسط ضيقاتي ، أمسكت مزماري ، لأرتل لك هذا المزمور . حقاً : { أمسرور أحد ، فليرتل }
( يع 5 : 13 ) . أما أنا فأرتل لك وأنا في عمق متاعبي . لأن مسرتي فيك .
لست أحسب هذه الضيقات تأديباً منك لي ، إنما أحسبها تقربني إليك .
أما خطيئتي أنت قد غفرتها . وإن كنت ترى هذه العقوبات الأرضية نافعة لي ، فأنا اقبلها بشكر ، ولكن ترفق بفتاك ، كما قلت أيضاً { ترفقوا بالفتى أبشالوم } ( 2صم 18 : 5 ) على الرغم من خيانته وكل أخطائه .. لذلك أنا أسال { كيف كثر الذين يحزنونني ؟! كثيرون قاموا على } ..
حقاً إن كل الضيقات ليست من أجل خطايا .
إن أصحاب أيوب الصديق أخطأوا في حقه وأثاروه ،إذا اتهموه بأن تجربته كانت بسبب خطاياه (أى 4: 7 ، فخوفهم الله على ذلك لأنهم لم يقولوا الثواب (أى 42 :7 ) . والرجل المولود أعمى ، لما ظن التلاميذ أن عماه بسبب خطية ، أجابهم الرب قائلاً { لا هذا أخطأ ولا أبواه ، ولكن لتظهر أعمال الله فيه } ( يو9 : 3) . والبابا القديس أثناسيوس الرسولي تألم كثيراً وهو بار . رسالته الثانية إلي كورنثوس ( 2كو 11 ) . والكتاب يقول :{ كثيرة هي أحزان الصديقين ، ومن جميعها ينجيهم الرب } ( مز34 : 19 ) والسيد المسيح وهو قدوس القديسين قيل عنه انه { رجل أوجاع ومختبر الحزن } ( إش53 : 3 ) .
وعلى الرغم من أن بعض متاعب داود كانت بسبب خطيئته ، إلا أن كل متاعبه لم تكن هكذا ..
فقد صادف متاعب كثيرة جداً في حياته من شاول الملك ، وكان داود وقتذاك في عمق صلته بالرب ، وقد حل روح الرب عليه .. وهذه المتاعب الحاضرة ، وإن كان الرب قد أنذره بشيء منها في ( 2صم 12 ) . إلا أن داود ما كان يظن أن الضيقة ستأتي بهذا العنف ، وأن الذين يحزنونه سيكون بهذه الكثرة ، لذلك عاتب الرب قائلاً : { يا رب كيف كثر الذين يحزنونني . كثيرون قاموا على }
كانت الأحزان مع داود في بره وفي خطيئته .
لم تفارقه أبداً ، منذ صباه . ومزاميره تتحدث عن تفاصيل منها . وهنا يرى الأمور قد وصلت إلي خطورة . فيصرخ إلي الرب قائلاً :
ولعله شرح كلمة (كثيرين) بعبارة { ربوات الجموع المحيطين بي القائمين على } (مز3 :6 ) . هل إلى هذه الدرجة يا رب تسمح أن كل هؤلاء يقومون على ؟! أأنا أخطأت ؟ لقد اعترفت بهذا . ولكن قبل تلك الخطية قد كثر الذين يحزنونني . { مراراً كثيرة حاربوني منذ صباي } ( مز 129 : 1 ) . بل استطيع أن أقول { أكثر من شعر رأسي ، الذين يبغضونني بلا سبب } ( مز 69 : 4 ) { أحاطوا بي واكتنفوني . أحاطوت بي مثل النحل حول الشهد ، والتهبوا كنار في شوك } ( مز 118 : 11 ، 12 ) .
إنه عزاء كبير لنا ، أن نبياً عظيماً مثل داود ، تعرض لمضايقات الكثيرين ..
وعزاء أكبر أنه نجا من كل تلك الضيقات . وشعره واحدة لم تسقط من رأسه . بل { نجا مثل العصفور من فخ الصيادين } ( مز 124 : 7 ) مبارك الرب الذي لم يسلمه فريسة لأسنانهم .. حقاً أنه { بضيقات كثيرة ينبغي أن نرث ملكوت الله } ( أع 14 : 22 )
انظروا كم من ضيقات كثيرة تعرض لها يوسف الصديق
كثيرون قاموا عليه ، حتى أخوته . القي في بئر ، وبيع كعبد . وقامت ضده امرأة سيدة ، ولفقت له تهمة وهو البريء . وقام ضده فوطيفار ، فآخذه ووضعه في بيت السجن ( تك 39 : 17 ، 20 ) أتراه قال هذه العبارة قبل داود { يا رب كيف كثر الذين يحزنونني }
المؤمن عموماً محاطاً بأحزان وضيقات ..
لأبد أن يدخل من الباب الضيق ، ويسير في الطريق الكرب ، ويحمل صليبه باستمرار ، ويخرج إلي الرب خارج المحلة حاملاً عاره ( عب 13 : 13 ) . إن الرب لم يخف عنا ، بل قال لنا بوضوح :
{ في العالم سيكون لكم ضيق } ( يو 16 : 33 )
ولكن حيثما توجد التجارب ، يوجد الله المنقذ .
توجد المعونة الألهية التي تعطي عزاء وخلاصاً . إن الكتاب لم يقل فقط : { كثيرة هى أحزان القديسين } بل قال بعدها مباشرة { ومن جميعها ينجيهم الرب } ولم يقل فقط : { في العالم سيكون لكم ضيق } بل قال بعدها
{ لكن ثقوا أنا قد غلبت العالم }
أتذكر أنه في فترة ما ، كانت العصافير تشكل خطورة كبيرة على مؤونة الدير ..
كانت تأكل المحاصيل بعنف ، وكذلك الفاكهة .. وفيما أنا نازل من الدير ، سألت الآباء : { هل تريدون شيئاً أحضره لكم معي ؟ } . فقال أحد الآباء الكبار : { نريد فخاً لكي نصيد به العصفور } فقالت له : { سأحضره لكم . ولكن العصفور سأعلمه مزمور } فسألني : [ أى مزمور ستعمله للعصفور ؟ ] فأجبته : [ المزمور القائل : { نجت أنفسنا مثل العصفور من فخ الصيادين . الفخ أنكسر ونحن نجونا .. عوننا من عند الرب الذي صنع السماء والأرض } ( مز124 ) ] . نعم ، إن الفخ موجود في طريق المؤمنين . ولكن معونة الرب موجودة أيضاً ..
على أن الخطورة التي صادفت داود ، لم تكن مجرد أن كثيرين قاموا على ..
عبارة { كثر الذين يحزنونني } يمكن احتمالها . وعبارة { كثيرون قاموا على يمكن احتمالها أيضاً . أما الأمر الذي لا يحتمل فيمكن في عبارة { كثيرون يقولون لنفسي : ليس له خلاص بإله ..! } .
إن داود يعلم تماماً أن كل متاعبه السابقة ، وكل الأخطار التي حاقت به ، كان الله هو الذي خلصه منها . لقد خلصه الله من الأسد والدب ، حينما أخذا شاه من قطيعه . وكذلك الرب هو الذي خلصه من جليات . لذلك قال لشاول : { الرب الذي أنقذني من يد الأسد ومن يد الدب ، هو ينقذني من يد الفلسطيني } ( 1صم 17 : 37 )
وعبارة } الخلاص للرب { أو} الحرب للرب { من العبارات المشهورة جداً في فم داود وفي مزاميره
إنه يقول لجليات : { الحرب للرب ، وهو يدفعكم ليدنا } ( 1صم 17 : 47 ) . ويقول له أيضاً
{ أنت تأتي إلي بسيف وبرمح وبترس ، وأنا آتي إليك بأسم رب الجنود .. هذا اليوم يحبسك الرب في يدي .. } ( 1صم 17: 45، 46 )
وهكذا يقول بالنسبة إلي أعدائه : { أحاطوا بي مثل النحل حول الشهداء ، وباسم الرب انتقمت منهم .. دفعت لأسقط ، والرب عضدني . قوتي وتسبحتى هو الرب ، وقد صار لي خلاصاً } ( مز 118 ) .
وكما كان الله خلاصاً لداود من الأسد والدب ، ومن جليات ، كذلك كان له خلاصاً من شاول الملك
كم من مرة أراد شاول أن يقتله ، وكم مرة طارده من برية إلي برية . وكان الرب هو الذي يخلص داود . ولذلك قال داود لشاول . { الرب يقضي بيني وبينك } ( 1صم 24 : 12 ،15 ) .
ولما وقع شاول في يد داود ، قال لشاول : { قد دفعك الرب اليوم ليدي ، ولم أشأ أن أمد يدي إلي مسيح الرب . هودا كما كانت نفسك اليوم عظيمة في عيني ، كذلك فلتعظم نفسي في عيني الرب ، فينقذني من كل ضيق }
( 1صم 26 : 23 ، 24 ) .
فإن كان الرب ينقذه من كل ضيق ، إذن ما أخطر هذه الشماتة أنه ليش خلاص بإله .. ؟
إنهم يوفونه بهذا الأمر المرعب ، أنه ليس له خلاص بإله . وهذا التخويف لم يصدر من فم إنسان واحد ، بل يشكو داود في صلاته صائحاً { كثيرون يقولون لي ليس له خلاص بإله .. !}
إنه يصارح الرب بما يقوله الناس . ولكنه لا يصدق إطلاقاً هذا الذي يقولونه ..
خبراته مع الله المحب ، الله المعين ، المنقذ والمخلص .. وحياة الإيمان التي يحياها .. ووعود الله له .. كل هذا لا يجعله يصدق كلام الشماتة الذي يسمعه منهم . ربما يبدو أن الله قد { تأخر} عليه ، وأن معونته لم تأت حتى الآن .. ولكنها لابد آتية ! ، ولو في الهزيع الأخير من الليل ..
الله لن يتركه . مستحيل .. الخلاص آت ، لاشك في هذا .. مهما تأخر..
يقول لنفسي { ليس له خلاص بإله } .. لأنهم أعداء ، ولأنهم شامتون بما حدث لي . شامتون بخيانة أبشالوم وخيانة أخيتوفل ، وشتائم شمعي بن جيرا ..شامتون لأني خرجت من أورشليم حافياً وباكياً .. ولكنهم يقولون هذا الكلام بالأكثر ، لأنهم لا يعرفون الله ، ولا يعرفون محبته لي ، ولا علاقته بي .!
لذلك فإن داود قال بعدها : سلاه . وهي لإشارة لوقفة موسيقية ..
أي أنه يقول لفرقة الموسيقيين التي تتابعه في إنشاده . قفوا هنا لنتأمل هذا الأمر ، وأيضاً نغير اللحن . بل نغير هذا الذي يقوله الأعداء والشامتون .. وقفة هنا . لأني لا أقبل هذا الكلام .
إنها أول مرة ترد فيها كلمة } سلاه { في مزامير داود
لم ترد في المزمور الأول ، ولا في المزمور الثاني . وهنا ترد لأول مرة في المزمور الثالث . وقد وردت 74 مرة في مزامير داود . عبارة عن وقفة موسيقية لتغيير اللحن ، وربما لتقديم معنى جديد وفكر جديد .. بل قفوا أيها الموسيقيون ، لأني بدلً من الكلام عن الناس ، سأتكلم مع الله . لي حديث معه عما يقوله الناس ..
حقاً يا رب أنني أخطأت إليك ، } والشر قدامك صنعت { ( مز 50 ) . ولكنك لا يمكن أن تتخلى
إن تخلى عني الكل ، فأنت لا تتخلى . وإن لن يتقدم أحد لخلاصي ، فهذا أمر لا يتعبني ، بل ولا يدهشني . المهم أنك أنت لا تتخلى ، لأن الخلاص هو من عندك . ومهما كنت خاطئاً ، فأنت { لم تصنع معنا حسب خطايانا } . محال أن أصدق أنك تنظر إلي في ضيقتي ولا تبالي ! لأني أنا عبدك وابن أمتك ( مز 115 ) . ومهما أخطأت : يدك يا رب على ، يدك لا عصاك . وحتى إن كانوا كثيرون قد قاموا على ، وأرادوا لي الموت ، فأنا { إن سرت في وادي ظل الموت ، لا أخاف شراً ، لأنك أنت معي } ( مز 23 ) .. { إن يحاربني جيش ، فلن يخاف قلبي . وإن قام علي قتال ففي ذلك أنا مطمئن } ( مز27 : 3 )
عبارة} ليس له خلاص بإله { ، هي عبارة تشكيك في معونة الله . أنها من عمل الشيطان ..
هو الشيطان الذي وضع هذا الكذب وهذا الإدعاء في أفواههم ، لكي يقلل إيماني بك وبمحبتك ومعونتك ، لكي يدفعني إلي اليأس والاستسلام ، لكي يشكك الناس أيضاً في مساندة الله لأولاده . أما انا فلا أيأس أبداً من معونتك .
مهما } تأخرت { معونتك ، فأنا مازلت أنتظرك ، في ثقة وفي إيمان ..
{ الرب عوني فلا أخشى ماذا يصنع بي الإنسان . الرب لي معين ، وأنا أرى أعدائي } ( مز118 : 6 ، 7 ) . بهذه الثقة أنتظر الرب ، وانتظر الرب من محرس الصبح إلي الليل ( مز 130 ) .
حتى إن كان الله يعاقب أحياناً ، فإنه شفوق في عقابه .
لذلك فأنا { أقع في يد الله ، ولا أقع في يد إنسان ، لأن مراحم الله واسعة } ( 1 أى 20 :13 ) . الله الذي لا يقصف قصبة مرضوضة ، ولا يطفئ فتيلة مدخنة ( مت 12 : 20 ) . الله الذي { يجرح وعصب }
( أى 15 : 18 ) .
عبارة } ليس له خلاص بإله { تذكرني بالكلمات القاسية التي تلفظ بها أصحاب أيوب
كم كان أشدها أيلاماً لنفس متمرمرة ، جرحوا بها إنساناً باراً . ولكن الله بكتهم ( أى 42 : 10 ) .. وفيما بكتهم { رد الله سبى أيوب } ( أى 42 : 10 ) . لأن الله لا يترك أولاده . وهكذا نحن { متحيرين لكن غير بائسين . مضطهدين لكن غير متروكين . مطروحين لكن غير هالكين } ( 2 كو 4 : 8 ، 9 ) . فليقل الناس إذ ما يقولون .. وليستخدموا أسلحة الشماتة والتشكيك .
أما أنا يا رب ، فإني أعرف من أنت :
أنت يا رب ناصري (1) ، مجدي ورافع رأسي .
وكأني بالبعض يسمع داود فيتعجب .. ماذا تقول أيها المسكين ؟ { ناصري ؟! ومجدي ؟! ورافع رأسي ؟! } كيف هذا ؟ وأنت قد خرجت باكياً وحافياً ، وكل الذين وراءك يبكون معك !! وصديقك حوشاي الأركي لما أتى للقائك ، جاءك ممزق الثوب والتراب على رأسه ( 2صم 15 : 32 ) ! هل في هذا مجد ونصرة ؟! وهوذا شمعي بن جيرا يشتمك ويقول : { اخرج يا رجل الدماء ورجل بليعال } وأنت تقول لاصحابك في مذلة :
{ دعوه يسب ، لأن الرب قال له سب داود .. لعل الرب ينظر إلي مذلتي ..} ( 2صم 16 : 5 ـ 12 ) . هل تقول بعد كل هذا { مجدي ورافع رأسي } ؟!
ولكن داود قال عبارته هذه بروح الإيمان ، غير ناظر إلي ما هو فيه ، وإنما إلي معونة الرب الآتية . لم يكن يحيا في الضيق الحاضر ، وإنما في الفرح المقبل ، وفي قلبه } الإيقان بأمور لا ترى { ( عب 11 : 1 )
كان وهو في مرارة ضيقته ، يرى خلاص الرب ماثلاً أمامه ، حتى قبل أن يأتي . أنها فضيلة الرجاء ، التي لا تعرف ضيقاً ولا يأساً . وليس الرجاء فقط ، وإنما أيضاً { الثقة بما يرجى } ( عب 11 : 1 ) . يتدرج منها الإنسان المؤمن إلي قول الرسول : { فرحين في الرجاء } ( رو 12 : 12 )
المتاعب موجودة والله أيضاً موجود . الإيمان به وبعمله ، يغطى على كل المتاعب ، فلا نراها ، إنما نرى عمل الله ونفرح به ونتغنى به في مزاميرنا
ونقول في عمق المتاعب : { أنت يا رب ناصري . مجدي ورافع رأسي } . أنت يا رب ضابط الكل . أنت لم تخلق الكون وتتركه . إنما أنت ترعاه . أنت تنظر إلي كل ما يحدث على الأرض ، وتقيم العدل بين الناس . وكما قال نبيك ملاخي : { والرب أصعي وسمع ، وكتب أمامه سفر تذكرة } ( ملا 3 : 16 )
أتراك لم تنظر أبشالوم وشمعي وأخيتوفل ؟ كلا بل رأيتهم في غرورهم وثورتهم وخيانته ، ورأيتني فيما أنا فيه من ظلم و مذلة
هذا انا اسمع صوتك
} من اجل شقاء المساكين وتنهد البائسين، الآن أقوم - يقول الرب-اصنع الخلاص علا نية { (مز 11)
وداود يحس بهذا تماما، فيقول في كثير من المناسبات آن الله ترس لي (مز3:3) درع واق من كل ضربات الأعداء . ترس أ و درع من كل سهام شاول الملك(2صم10 ) بل من { كل سهام الشرير الملتهبة } (أف 6 :16) . نعم انه الله الذي :{ لا يترك عصا الخطاة تستقر على نصيب الصديقين . . . } (مز 125 : 3 ) .
إنه أله المساكين والضعفاء والعاجزين أمام من هو أقوي منهم ..
نقول له في صلواتنا الطقسية : { يا معين من ليس له معين ، ورجاء من ليس له رجاء ، وعزاء صغيري النفوس ، ميناء الذين في العاصف } . ويقول داود النبي : { جميع عظامي تقول يا رب من مثلك : المنقذ المسكين ممن هو أقوى منه ، والفقير والبائس من سالبه } ( مز 35 : 10 ) .
لذلك بينما يعتمد الأقوياء على أنفسهم ، نجد الضعفاء يصرخون إلي الله ..
إن داود لم يصرخ إلي الله ، حينما كان شاعراً بقوته وبقدرته على ضرب نابال الكرملي ( 1صم 25 : 13 ، 22 ) . ولكنه صرخ إلي الله وهو شاعر بعجزه أمام شاول ، وبعجزه أمام أبشالوم ، بسبب قوتهما من جهة . ومن جهة أخرى لأن شاول هو مسيح الرب وأبشالوم هو ابن داود . لذلك فهو عاجزاً عن ضربهما لأسباب نفسية في داخله ، وأيضاً لأنهما لا يباليان بأي تصرف بسبب انحدار مستواهما الروحي .. ولهذا فإنه يصرخ إلي الله : يا رب كيف يحدث هذا ؟ كيف كثر الذين يحزنونني ؟
حقاً ، كلما وقف الإنسان ضعيفاً أمام الله ، كلما كان مستحقاً لمعونته الإلهية
لأنه من عمل الرب أن يبشر المساكين ، ويعصب منكسري القلوب ( أش 61 : 1 ) . وكما قال الرب في رعايته لغنمه : { أنا أرعى غنمي وأربطها .. وأجبر الكسير ، وأعصب الجريح .. } ( خر 34 : 15 ، 16 ) . وهنا كان داود في موقف الكسير الجريح . لم يكن الملك العظيم الجالس على عرشه ، وإنما كان الملك الطريد الهارب من وجه أعدائه ..
إن القوى عرضه للسقوط أكثر من غيره ، غالباً بسبب كبريائه واعتزازه وبقوته !
لأنه { قبل الكسر الكبرياء ، وقبل السقوط تشامخ الروح } ( أم 16 : 18 ) . فالأقوياء من فرط غرورهم بقوتهم لا يحترسون ، فيسقطون لقلة الحرص . ومن ثقتهم بأنفسهم لا يشعرون بحاجتهم إلي قوة خارجية ، فلا يصلون طالبين معونة . وإذ يبعدون أنفسهم عن عمل النعمة يسقطون . ولذلك قيل عن الخطية أنها : { طرحت كثيرين جرحى ، وكل قتلاها أقوياء } ( أم 7 : 26 ) .
وكان داود يصلي لينقذه الرب من الأقوياء
كان يقول : { اللهم باسمك خلصني .. فإن الغرباء قد قاموا على ، والأقوياء طلبوا نفسي . لم يجعلوا الله أمامهم } ( مز54 : 1 ،3 ) . وهكذا كان كل الأقوياء الذين قاموا ضد داود : الأسد والدب ، وجليات ، وشاول ،وأبشالوم . وكلهم { لم يجعلوا الله أمامهم } واختبر داود كيف أن الله نصره ضد كل هؤلاء .فقال له هنا : { أنت ناصري رافع رأسي } أنت كنت درعاً وترساً لي ، اصد به كل سهام أعدائي .. وهكذا لم يمت شاول بيد داود ، ولا مات أبشالوم بيد داود ، لأن الحرب للرب الرب هو الذي خلصه منها ..
حقاً ، كما قال موسى النبي : { لا تخافوا قفوا وانظروا لاص الرب .. الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون }
( خر 14 : 13 ، 14 ) وبالنسبة إلي داود ، لم يكن الرب فقط ترساً له ، درعاَ يصد الهجمات ، إنما يقول عنه بالأكثر : { مجدي ورافع رأسي } ..
هوذا الرب يقول عنه في المزمور : { لأنه تعلق بي أنجيه . أرفعه لأنه عرف أسمي .. معه أنا في الضيق : أنقذه وأمجده } ( مز 91 : 14 ، 15 ) . لم يقل فقط : { أنجيه } ، إنما قال بعدها أيضاً { أرفعه } . ولم يقل فقط { أنقذه من الضيق } ، وإنما قال أكثر من هذا : { وأمجده } . وهذا هو الذي حدث مع داود .
أنقذه الرب من جليات الجبار . وأيضا مجده الله في هذه المناسبة ورفع رأسه .
فخرجت النساء تغنين بالدفوف والفرح والرقص قائلات : { ضرب شاول ألوفه ، وداود ربواته } ( 1صم 18 : 6 ، 7 ) .
وتعين داود رئيساً على رجال الحرب ، ونال محبة جميع الشعب ، وألبسه الأمير يوناثان ثيابه وقوسه ومنطقته ، وبعد هذا أمكن أن يتزوج داود ميكال ابنه الملك ، وأعانه الله في إنتصارات أخرى ( 1صم 19 ) بل قيل عنه أيضاً : { كان داود يفلح أكثر من جميع عبيد شاول فتوقر أسمه جداً } ( 1صم 19 : 35 ) .
كذلك لم ينقذه الرب فقط من شاول الملك ، إنما مجده بعدها ورفع رأسه .
مات شاول الملك الذي كان يطلب نفسه . وهكذا تخلص داود من كل محاولات شاول لقتله . وبموت شاول رفع الله داود إلي كرسي الملك ، فأتوا ومسحوه ملكاً على بيت يهوذا ( 2صم 2 : 4 ) .
{ وكان داود يذهب يتقوى ، وبيت شاول يذهب يضعف } ( 2صم 3 : 1 ) . وخلصه الرب من أبنير قائد جيش شاول ، فمات ( 2صم 3 : 30 ) { وجاء جميع أسباط إسرائيل إلي داود إلي حبرون ، وتكلموا قائلين هوذا نحن عظمك ولحمك .. ومسحوا داود ملكاً على إسرائيل } ( 2صم 5 : 1 ، 3 ) . واستقر له الأمر كملك على الشعب كله .. ورفع الله رأسه .
تذكر داود كل هذا ، عند قيام أبشالوم ضده . ونال عزاء داخلياً من ذكرياته فقال :
لا شك أن القلب يتعزى ، وإيمانه يتقوى، كلما يذكر إحسانات الله السابقة إليه ، وكلما يذكر صلواته التي استجابها الله من قبل .. هذه الذكريات تشعر الإنسان بمحبة الله وعمله ، فيقول لنفسه : أن الذي استجاب في القديم ، هو أيضاً يستجيب الآن وكل آوان . وهكذا نحن نقول في القداس الألهي :
} يالذي بارك في ذلك الزمان ، الآن أيضاً بارك { ..
خلاص الرب لداود ، كان هو قصة حياته كلها . كلما تذكر تفاصيل حياته ، يذكر خلاص الرب . ولهذا نجد في الكتاب عبارة معزية جداً ، يقول فها الوحي الإلهي : { وكان الرب يخلص داود حيثما توجه } ( 2صم 8 : 6 ).
هذا الخلاص لم يستطع داود أن ينساه في وسط ضيقاته . بل هذا الخلاص لا تنساه الكنيسة كلها ..
التاريخ طويل ، حافل بالذكريات المحببة للنفس . إن الذي أنقذ من نيرون هو الذي أنقذ أيضاً من ديوقلديانوس ومن أريانوس والى أنصنا ، ومن كثيرين بعدهم . وكل آلة صورت ضد أولاد الله لم تنجح ( أش 54 : 17 ) . وبهذه الذكريات يتعزى القلب الصارخ إلي الله ، مهما كانت الصعوبات الواقفة أمامه . يتذكر قول الرب عن رز بابل ، عند إعادة بناء الهيكل .
} من أنت أيها الجبل العظيم ؟! أمام رز بابل تصير سهلاً } ( زك 4 : 7 )
كثيراً ما صرخ داود إلي الله فاستجاب له . ولم ينس هذه الاستجابة ، بل تذكرها ليتعزى بها .. إنه لم يعش حياة سهلة ، وإنما صار في طريق محفوف بالضيقات والمتاعب ، وقد نجاه الرب بصلوات مستجابة ، حتى قال : { كثيرة هى أحزان الصديقين ، ومن جميعها ينجيهم الرب . يحفظ الرب جميع عظامهم ، وواحدة منها لا تنكسر } ( مز 83 ) .
خبرات الإنسان مع الله ، تشجعه في وقت الضيق . وهنا داود يتذكر خبراته ..
{ بصوتي إلي الرب صرخت فاستجاب لي } . وعبارة { صرخت } تدل على عمق الصلاة وعمق الحاجة ، وعمق الشدة التي هو فيها . ومزامير داود مملوءة بصراخه إلي الرب . ويمكن أن تتبعوا كلمة صرخت فيباقي المزامير . نجد لها مثيلاً في صلاة يونان وهو في بطن الحوت .. كان ولا شك في شدة يناسبها الصراخ . فقال للرب : { صرخت من جوف الهاوية ، فسمعت صوتي } ( يون 2 : 2 ) . صرخت والرب استجاب { وأمر الرب الحوت فقذف يونان إلي البر } ( يون 2 : 10 ) .
الإنسان يرفع صلواته إلي أقداس الله ..
لذلك يقول هنا : { استجاب لي من جبل قدسه } . ويقول في ( مز 19 ، 20 ) { الآن علمت أن الرب خلص مسيحه .. واستجاب له من سماء قدسه } . لذلك من المفروض أن تكون الطلبات مقدسة ، أو على الأقل طلبات تتفق مع مشيئة الله ..
يستطرد داود في ذكر خبراته مع الله فيقول :
عجيب أن داود يستطيع أن يضطجع وينام ، مع وجود كثيرين يحزنونه ، وربوات من الجميع محيطين به . الوضع العادي أن يطير النوم من عينه ، وسط هذه الأحزان والتهديدات الخارجية .. انظروا ماذا قيل عن داريوس الملك ، حينما ألقى دانيال في جب الأسود .. يقول الوحي الإلهي عنه : { حينئذ مضى الملك إلي قصره ، وبات صائماً .. وطار عنه نومه } ( دا 6 : 18 ) .
ولكن على الرغم من الضيقات ، ينام الإنسان الذي يكون قلبه مملوءاً بالإيمان وبالسلام ..
بمثل هذا الإيمان وهذا السلام ، نام بطرس الرسول في السجن محروساً بأربعة من العسكر ، وقد نوى الملك هيرودس أن يسلمه بعد الفصح إلي اليهود ( بعد ايام ) ليقتلوه ( أع 12 : 3 ، 4 ) . ولم ينام نوماً قلقاً ، وإنما نوماً ثقيلاً ، لدرجة أن الملاك الذي جاء لإنقاذه ، ضربه في جنبه لإيقاظ ( أع 12 : 7 ) .. وهكذا اضطجع داود ونام ..
الضيقات كانت خارجة ، تضغط من الخارج ، ولو تدخل إلي داخل نفسه فتقلقه وتمنع عنه النوم
ولذلك استطاع أن ينام ، ليس نوم الغفلة ، ولا نوم الموت ، ولكن نوم الثقة . نام في أحضان الله الحنون . أبشالوم ومعه الجيش يطارده ، وهو في البرية ينام . تاركاً الرب يستر ويحفظ ..
كان داود في نومه ، أكثر اطمئنانا من أبشالوم المعتزل بقوته .. لذلك قال : } أنت اضطجعت ونمت { ..
ولكنني حينما أصل في تأملاتي معكم إلي هذه الآية بالذات ، أتذكر أننا نذكرها في ليلة الجمعة الكبيرة في وقت ( الدفنة ) ، حينما نتذكر في الطقس دفن السيد المسيح ، ونقرأ المزامير ..
نصلي المزمور إلي عبارة } اضطجعت ونمت { التي تتنبأ عن موت المسيح . ثم نمت ولا نكمل المزمور . وفي صلاة ليلة القيامة ، نكمل ونقول : } ثم استيقظت { تشير إلي قيامة السيد المسيح ..
فالنوم يرمز أحياناً إلي الموت . وحينما تكلم الرب عن موت لعازر ، قال لتلاميذه القديسين : { لعازر حبيبنا قد نام ، لكني أذهب لأوقظه } ( يو 11 : 11 ) وكان يتكلم بالرمز عن موت لعازر . ويقصد بكلمة { أذهب لأوقظه } أي أذهب لأقيمه من الأموات . وهنا نفس المعنى في عبارة { أنا اضطجعت ونمت ثم استيقظت } .. بالنسبة إلي السيد المسيح . وهذا التفسير يدلنا على أن هناك ثلاث اتجاهات في تفسير هذا المزمور وتأملاته :
الإتجاه الأول في التفسير ، خاص بداود الملك ومتاعبه وأحزانه . ومثاله كل ما قلناه في الصفحات السابقة
الاتجاه الثاني في التفسير ، خاص بالسيد المسيح له المجد ومثاله ما قلنا في تطبيق الآية : { أنا اضطجعت ونمت ثم استيقظت } على موت السيد المسيح وقيامته . وهو منهج واضح في طقس الجمعة الكبيرة . وهو أيضاً المنهج الذي يستخدمه القديس أوغسطينوس في تفسير كثير من المزامير .
الاتجاه الثالث في تفسير هذا المزمور ، هو اتجاه روحي ، ينطبق على كل إنسان في حياته الخاصة . وسنعرض له أن شاء الله في صفحات مقبلة من هذا الكتاب ..
نبدأ من أول المزمور . ونرى السيد يقول للآب : { يا رب ، كيف كثر الذين يحزنونني كثيرون قاموا على ؟! } كيف أمكن أن يجتمع ضدي كل هؤلاء في كثرتهم : الكتبة والفريسيين والصدوقيين والشيوخ والكهنة ورؤساء الكهنة ، وهذه الجموع من الشعب الذي أحسنت إليه .. ! حقاً أنه أمر يدعوا إلي العجب .
وعجيب أيضاً أن يظنوا أنني أريد الخلاص من الصليب ( مت 27 : 42 ) ! ويقولون عني في ذلك : { ليس له خلاص بإله } ! { أتركه لنرى إيليا ليخلصه } ( مت 27 : 49 ) . وكانوا يستهزئون به قائلين : { أن كنت أنت المسيح فخلص نفسك } ( لو 23 : 39 ) . وكانوا يرون أن موته هو نهايته وأنه لن يكن له خلاص بعد ذلك .
أما أنت يا رب فعوني ، ناصري على كل هؤلاء ، مجدي ورافع رأسي . في نفس عملية الصليب مجد للابن ، وفي قيامته مجد قال حينما اقترب إلي الجلجثة { أيها الأب قد آتت الساعة . مجد أبنك ليمجدك أبنك أيضاً } ( يو 17 : 1 ) كان يرى مجده في صليبه . مجد الحب والبذل ، ومجد القضاء على دولة الشيطان ، وشراء الخليقة بالدم الكريم . مجد الملكوت الذي سيؤسسه بدمه . مجد الفداء والكفارة . المجد الذي سيرفع رأسه كمخلص للعالم كله بموته . لأنه بموته سيدوس الموت ، ويدوس إبليس الذي أدخل الموت إلي العالم . هذا هو المجد أن الابن سحق رأس الحية على صليبه ومجده في القيامة أمر واضح للكل .
{ أنا اضطجعت ونمت ثم استيقظت } . أنا لم أمت الموت الذي يظنونه النهاية .. فروحي خالدة لا تموت . وأنا بلاهوتي حتى لا أموت . إنما هذا الموت أشبه بنوم استيقظت منه بالقيامة . حقاً انفصلت فيه الروح عن الجسد ، لتوفي العدل الإلهي ، صم عادت إلي جسدها بقيامة مجيدة داست بها الموت إلي الأبد .
لذلك { لا أخاف من ربوات الجموع المحيطين بي القائمين على } الصارخين في جهالة قائلين :
{ أصلبه أصلبه } غالبية هؤلاء سيرجعون إلي تائبين لينضموا إلي الإيمان .. وليس لأحد من هؤلاء سلطان
على . لي نفس أنا أضعها من ذاتي . { أضع نفسي لآخذها أيضاً . ليس أحد يأخذها مني . لي سلطان أن أضعها . ولي سلطان أن آخذها أيضاً } ( يو 10 : 17 ، 18 ) ..
إما أن يطبق المصلي هذه الآيات على نفسه في مشاكله وأحزا نه وكثرة الأعداء المحيطين به .
وإما أن يأخذها بطريقة روحية ، فينادي الرب طالباً عوناً في حروبه الروحية قائلاً : كيف يا رب كثر الذين يحزنونني . كثيرون قاموا على : حروب من الأفكار ، وحروب من الحواس ، وحروب من مشاعر القلب وشهواته ، وحروب من الشياطين ، وعثرات من الناس ، وسقطات من اللسان ..
وكل هذه الحروب في ضغطاتها ، تشمت بسقطاتي ، وتحاربني باليأس قائلة { ليس له خلاص بإله } .. كما لو كان الرب قد تركني ، ونعمته قد تخلت عني ، وأسلمني للهلاك ..
ولكنك يا رب بقلبك الحنون ، لن تتركني في خطاياي . أنت ترس لي . أنت ناصري . لابد ستقيمني من سقطتي ، وتردني إلي رتبتي الأولي ، وتغسلني فأبيض أكثر من الثلج ، وتمنحني بهجة خلاصك وتعود فترفع رأسي ، وترجعني إلي صورتي الأولي ، فأتمجد بك .
هكذا فعلت مع الخاطئة يهوذا في سفر حزقيال النبي . قلت : { رأيتك مدوسة بدمك فبسطت ذيلي عليك وسترت عورتك .. ودخلت معك في عهد – يقول السيد الرب فصرت لي . فحممتك بالماء { أي في المعمودية } ومسحت بالزيت أي { بمسحة الميرون المقدسة } .. وألبستك مطرزة وكسوتك بزاً
{ أي تبررات القديسين } .. ووضعت تاج جمال على رأسك .. وجملت جداً جداً ، فحصلت لمملكة . وخرج لك أسم في الأمم لجمالك ، لأنه كان كاملاً ببهائي الذي جعلته عليك } ( حز 16 : 6 – 14 ) .
وهكذا يجد الخاطئ أن الله يرفع رأسه ، بل يضع تاج جمال لى رأسه .
وذلك بأنه يطهره وينقيه من كل نجاساته ، كما وعد في سفر حزقيال قائلاً : { وأرش عليكم ماء طاهراً فتطهرون من كل نجاستكم .. أعطيكم قلباً جديداً ، وأجعل روحاً جديدة في داخلكم . وانزع قلب الحجر من لحمكم وأعطيكم قلب لحم وأجعل روحي في داخلكم وأجعلكم تسلكون في فرائضي } ( حز 36 : 25 ـ 27 ) .. كل هذا يا رب .
حقاً أنت يا رب ناصري . ومجدي ورافع رأسي . وقد كذب الذين قالوا عني : ليس له خلاص بإله .
إن كنت قد سقطت ، فأنا بمعونتك سأتوب .. لقد اختبرت هذا في حياتي ، لأني مراراً كثيرة { اضطجعت ونمت ثم استيقظت } لأنك أنت يا رب ناصري على كل ضعفاتي .. ما أكثر ما أصابني الخمول في روحياتي ، ثم تأتي بعده يقذه روحية ، أسمعها فيها يقول الرسول :
{ استيقظ أيها النائم ، وقام من الأموات ، فيضيء لك المسيح } ( أف 5 : 14 ) .
أشكر الله أني استيقظت . وكان النوم شيئاً عارضاً في حياتي . ولم تتركني النعمة الحافظة . لذلك مهما حاربني العدو بشتى الحروب الروحية ، { فلا أخاف من ربوات الجموع المحيطين بي ، القائمين على } . الله أقوى منهم جميعاً . يكفيني أن أصرخ إلي الله ، كما صرخت من قبل مراراً ، { فاستجاب لي من جبل قدسه }
10- وهكذا يستمر المزمور بالنسبة إلي الإنسان العادي سواء من جهة ضيقاته وأعدائه ، أو من جهة خطاياه
11- ويمكن أن هذا المزمور يقال على لسان الكنيسة باعتبارها جماعة المؤمنين وجسد المسيح .
وهكذا يتسع التأمل في المزمور ، ولا يقف عند اتجاه معين . والقديس أوغسطينوس بعد أن ركز على السيد المسيح في بادئ تفسيره ، عاد وطبقه على الكنيسة ، ثم على الفرد العادي ...
داود خانه أبشالوم . والسيد المسيح خانه يهوذا والشعب الذي هتف أصلبه أصلبه ..
داود صرخ { قائلاً كثيرون قاموا على } . والسيد المسيح كذلك قام عليه كثيرون .
وداود لم يكن ضد أبشالوم الذي خانه ، بل قال لقادة جيشه : { ترفقوا بالفتى أبشالوم } ( 2صم 18 : 5 ) ولما مات أبشالوم حزن عليه داود ، وبكى وهو يقول : { يا ابني أبشالوم ، يا ليتني مت عوضاً عنك يا ابشالوم ابني يا ابني } ( 2 صم 18 : 23 )
وكلمة أبشالوم معناها سلام أبيه ــ مكونة من مقطعين أب ، شالوم . ذلك لأن أبشالوم وإن كان ضد أبيه ، إلا أن أباه لم يكم ضده ، بل كان في سلام معه ، على الرغم من ثورة هذا الابن عليه .
والس
هذا المزمور هو مزمور عتاب مع الله ، كما في قوله: { يا رب لماذا ؟ } . وهو مزمور شكوى ، كما في قوله : { كثر الذين يحزنونني . كثيرون يقولون لنفسي : ليس له خلاص بإله } وهو أيضاً مزمور استغاثة كقوله { قم يا رب خلصني يا ألهي } . وهو كذلك إيمان حيث يقول : { لا أخاف من ربوات الجموع المحيطين بي } . وهو يتحدث في صلاته عن خبراته الروحية فيقول
{ بصوتي إلي الرب صرخت ، فاستجاب لي من جبل قدسه } . والمزمور أيضاً فيه ثقة واتكال على الله ، إذ يقول { للرب الخلاص وعلى شعبه بركته } . ويسترجع مع الرب ذكرياته فيقول : { ضربت كل من يعادينني باطلاً . أسنان الخطاة سحقتها } . ومع أنه يبدأ بالشكوى والعتاب والاستغاثة إلا أنه ينتهي بالتهليل ( هللويا ) إذ يتذكر أعمال الله معه .
ويصلح هذا المزمور لكل من هو في ضيقة من أعدائه ، ولكل من هو مضغوط من حروبه الروحية .
وهو أيضاً نبوءة عن السيد المسيح في الأمه وموته وقيامته …
وسنتناوله الآن أية أية في تطبيقه الروحي على النفس البشرية .
أنه يبدأ فيقول :
أنه عتاب مع الله … لماذا يا رب ؟ لماذا يحدث لي كل هذا ؟ ! كيف يحدث هذا وأنت موجود ؟!
كثير من الناس إن قلت لهم لماذا يحدث لي منكم هذا ؟ يغضبون ويتضايقون . ولكن الله نقول له لماذا ؟ فيتسع صدره لكل ما نقول ….
داود النبي ، كثر الذين يحزنونه ، فلم يعاتبهم . وإنما عاتب الله نفسه …
لماذا يا رب أجد هذا الحزن ؟ لماذا كثر الذين يحزنونني ؟ أليسوا جميعهم في قبضة يديك ؟ ألست أنت ضابط الكل ؟ لماذا تسمح بكل هذا ، وأنا في رعايتك وفي حمايتك ؟ !
ما أكثر عتاب داود مع الله . ! لعلها إحدى الميزات التي تتميز بها المزامير ….
انظروا مثلاً الدالة التي يتكلم بها في المزمور العاشر ، فيقول للرب معاتباً :
}يا رب لماذا تقف بعيداً ؟ ! لماذا تختفي في أزمنة الضيق ؟ ! { ( مز 10 : 1 )
ربما لو قلنا هذه العبارة لأحد أصدقائنا من البشر ، لا يحتملها … ! ولكن الله يقبل هذا الكلام …. وعبده داود عنده الجرأة أن يقول { يا رب لماذا ؟ } .
ويكمل داود عتابه فيقول : { في كبرياء الشرير ، يحترق المسكين… والخاطف يجدف ، يهين الرب … كل أفكاره أنه لا إله . ويتابع داود عتابه فيقول { قم يا رب يا الله ارفع يدك . لا تنس المساكين ..}
لماذا يا رب تختفي وقت الضيق ؟ قم . اعمل خلص رعيتك . لماذا يقولون لا إله ! أو لماذا يقولون :
{ ليس له خلاص بإله } ؟ ! { تأوه الودعاء . قد سمعت يا رب } ( مز 10 : 17 ) .
إنه إنسان يكلم الله بصراحة ، ويعاتبه ..
لماذا نبحث عنك في وقت الضيق ، فلا نجدك ؟! وكأنك تقف بعيداً ، وكأننا لسنا من أولادك ، والله يقبل كل هذا الكلام … على الرغم من أنه يعمل ، ولكننا نحن الذين لا نبصر عمله …
ويعود داود ليقول { يا رب لماذا ؟ } في ( المزمور 44 )، حيث يصف متاعبه ، ويعاتب الرب قائلاً : { قد رفضتنا وأخجلتنا } إلي أن يقول للرب في نفس المزمور ( مز 44 : 12 ) :
} بعت شعبك بغير مال ، وما ربحت بثمنهم { .
{ اليوم كله خجلي أمامي ، وخزى وجهي قد غطاني ، ومن صوت المعير والشاتم ، من وجه عدو منتقم } . ويختم داود عتابه بقوله :
} استيقظ . لماذا يا رب تتغافى ؟ أنتبه .. لماذا تحجب وجهك وتنسى مذلتنا وضيقتنا .. {
( مز 44 : 23 ، 24 )
أن داود يفتح فلبه لله ، ويشرح مشاعره كما هي . لا يتصنع كلاماً …
إن شكر يشكر من عمق قلبه وهو مبتهج . أما إن كان متضايقاً ، فإنه يعاتب .. وفي ل ذلك لا يغضب الله من صراحته ولا من عتابه . بل أن السيد المسيح له المجد يقول عن مزامير داود :
قال داود بالروح ( مت 22 : 43 ) .
عتاب داود لله يدل على آمرين : محبة الله وسعة صدره من جهة ، وجرأة داود وصراحته ودالته من جهة أخرى ..
ويعود داود في ( المزمور 74 ) فيقول للرب : ( لماذا ؟ ) مرة أخرى { لماذا رفضتنا يا الله إلي الأبد ؟ لماذا يدخن غضبك على غنم مرعاك ؟ .. حتى متى يا الله يعير المقاوم ، ويهين العدو أسمك إلي الغاية ؟ لماذا ترد يدك ويمينك ؟ ! } ( مز 74 : 1 ، 10 )
ثم يقول :
} لا تسلم للوحوش نفس يمامتك { ( مز 74 : 19 )
ثم يختم عتابه بقوله : { قم يا الله . أقم دعواك . أذكر تعيير الجاهل إياك اليوم كله .. } إنه يعتبر تعبيرات الجاهل تعبيرات لله نفسه . لأنه لو كان الله قد قام وأنقذ ، ما كان العدو الجاهل يفعل هذا كله ...
وفي ( المزمور 79 ) يقول داود للرب معاتباً : { اللهم أن الأمم قد دخلوا ميراثك ، نجسوا هيكل قدسك } ( مز 79 : 1 ) ... . { إلي متى يا رب تغضب كل الغضب ، وتتقد كالنار غيرتك ... لا تذكر علينا ذنوب الأولين } إلي أن يقول للرب :
} لماذا يقول الأمم أين هو إلههم { ( مز 79 : 10 ) .
وهنا لا يعاتب الرب فقط على تعديات الأمم وتعبيراتهم ، إنما يعاتبه أيضاً على غضبه
لولا أنك يا رب غضبت علينا وتركتنا ، ما كان الأمم يفعلون بنا كل هذا ... إذن لماذا يا رب تغضب ، فلماذا يستمر غضبك { أعنا يا الله وخلصنا من أجل أسمك نحن شعبك وغنم رعايتك } ( مز 79 : 9 ، 13 ) ...
ونفس العتاب ، ونفس كلمة لماذا ؟ يتكرر في ( مزمور 80 ) وفي ( مزمور 88 ) حيث يقول داود : { يا رب الجنود ، إلي متى تدخن على صلاة شعبك ؟ } إلي أن يقول معاتباً :
} قد أطعمتهم خبز الدموع ، وسقيتهم الدموع بالكيل {
جعلتنا نزاعاً عند جيراننا ، وأعداؤنا يستهزئون ( مز 80 : 4 -6) . ويختم العتاب في هذا المزمور بقوله : { أرجع . اطلع من السماء ... أنر بوجهك علينا فنخلص }
6- ويقول داود معاتباً الرب في ( المزمور 88 ) .
} لماذا يا رب ترفض نفسي ؟ لماذا تحجب وجهك عني { ( مز 88 : 14 )
هذا المزمور بالذات مملوء بالعتاب ، حيث يقول للرب : { على استقر غضبك . وبكل تياراتك أذللتني }
( مز 88 : 7 ) { أبعدت عني معافى ... عيني ذابت من الذل . دعوتك يا رب كل يوم بسطت إليك يدى . أفلعلك للأموات تصنع عجائب ... لماذا يا رب ترفض ... }
ما أكثر العتاب في مزامير داود . لسنا نستطيع أن نحصيه في هذا المجال . لكننا نود أن نحتم اقتباسنا من داود بقوله في ( المزمور 89 ) :
} حتى متى يا رب تختبئ كل الاختباء ؟ ! حتى متى يتقد كالنار غضبك ؟ .. أين مراحمك الأولى .. ؟
( مز89 :46، 47 ) .
إنه يذكرنا أيضاً بما قاله في المزمور التسعين : { ارجع يا رب حتي متي ؟ 000 فرحنا كالأيام التي فيها أذللتنا ، كالسنين التي رأينا فيها شرا } ( مز 90 : 13 ، 15 ) .
هذا العتاب ، و هذه الصراحة ، و عبارة (( يا رب لماذا ؟ )) 000 ليس هذا كله موجودا في مزامير داود فقط ، إنما نجد هذا الأسلوب في أسفار أخري في الكتاب المقدس ، وعند أنبياء و قدس كثيرين 000
انظروا إلى ارميا النبي يعاتب الرب ، ويقول له أيضا : لماذا 000 وذلك في قولة { أبر أنت يا رب من أن أخاصمك . و لكني أكلمك من جهة أحكامك : لماذا تنجح طريق الأشرار . اطمأن كل الغادرين غدرا } ( إر 12 : 1 )
إني أعجب من التراب و الرماد ، حينما يناقش الله في أحكامه ، ويقول له لماذا ؟ ! حقا إن القديس بولس الرسول يقول: { يا لعمق غني الله و حكمته وعلمه 0 ما أبعد أحكامه عن الفحص ، وطرقه عن الاستقصاء لانة من عرف فكر الرب ، أو من صار له مشيرا ؟ ! } ( رو 11 : 33 ، 34 ) .
ولكن ارميا النبي يقول هنا للرب : أكلمك من جهة أحكامك : لماذا ..؟
إنه شئ يا رب لم استطع أن أفهمه . شئ غريب أنك تترك الأشرار هكذا ينجحون { غرستهم فأصلوا . نموا وأثمروا ثمراً } { حتى متى تنوح الأرض ، وييبس عشب كل الحقل من شر الساكنين فيها ؟ !} ( أر12 :2،4)
لماذا يا رب يحدث هذا ؟ لماذا ينجح الأشرار ؟ أين عدلك ؟ أين محبتك للصلاح ؟!
أعطيني حلاً . أعطيني تفسيراً . أشرح لي أحكامك . { فهمني حقوقك . عرفني طرقك . أكشف عن عيني فأرى 000 } ( مز 119) . أريد أن أفهم ، على قدر ما يستطيع عقلي أن يفهم ، لماذا تنجح طريق الأشرار ؟!
والرب يقبل هذا العتاب في هدوء . ويشرحه في موضع أخر : الأشرار كالدخان الذي يرتفع إلي فوق ، وفيما يرتفع يضمحل ويتبدد ، وتنظر إليه فلا تجده : { بعد قليل لا يكون الشرير . تتطلع إلي مكانه فلا يكون 000لأن الأشرار يهلكون .. فنوا ، كالدخان فنوا } ( مز 37 : 10 ، 20 )
الله غير المحدود غير المدرك ، يفتح صدره ، ويتفاهم مع أولاده ، حينما يقولون : لماذا ؟
2- نفس عبارة لماذا ، قالتها عذراء النشيد :
أنها تعاتب الرب الذي تحبه بقولها { أخبرني يا من تحبه نفسي أين ترعي .. لماذا أنا أكون كمقنعة عند قطعان أصحابك } ( نش 1 : 7 ) . والرب لا يتضايق من عتابها بل يقول لها : { أن لم تعرفي .. فأخرجي على أثار الغنم } .. تتبعي خطوات القديسين ..
3- مثال أخر ، مفتوح القلب جداً في العتاب مع الله ذلك هو أيوب الصديق ..
أنه يعاتب الرب في جرأة عجيبة ، ويستخدم أيضاً عبارة { لماذا ؟} فيقول له: { أشكو بمرارة نفسي . أبحر أنا أم تنين ، حتى جعلت على حارساً ؟ } { كف عني } ( أى 7 : 11 ، 12 ، 16 ) أى إنسان منا ، لو قال عبارة { كف عني } لصديق له ربما ما كان يحتملها منه ولكن أيوب الصديق يقولها لله نفسه ، ويتابع عتابه قائلاً : لآ حتى متى لا تلتفت عنى ولا ترخيني ، ريثما أبلع ريقي } ( أى 7 : 19 ) . ثم يقولها بعدها :
} أخطأت ؟ ماذا أفعل لك يا رقيب الناس {
{ لماذا جعلتني عاثوراً لنفسك ، حتى أكون على نفسي حملاً ؟ ولماذا لا تغفر ذنبي ولا تزيل أثمي ؟ } ( أى 7 : 20 ، 21 ) .
من يستطيع أن يقول كلاماً مثل هذا لأحد من الناس ؟ ولكن أيوب في عتابه مع الله يقول له أكثر من هذا بكثير ؟ انه يقول له
} لا تستذنبني . فهمني لماذا تخاصمني ؟ { ( أى 10 : 2 )
{ أخاف من كل أوجاعي ، عالماً أنك لا تبرئني . أنا مستذنب ، فلماذا أتعب عبثاً . لو اغتسلت بالثلج ، ونظفت يدي بالأشنان ، فأنك في النقع تغمسني ، حتى تكرهني ثيابي } ( أى 9 : 28 – 30 )
أتظنوا أن الله غضب من هذا العتاب ؟ كلا .
بل أن الله في أخر السفر ، حينما وبخ أصحاب أيوب الثلاثة الذين كانوا يثيرون نفسه المرة بالاتهامات الباطلة ، قال لهم : { لم تقولوا في الثواب كعبدي أيوب } ( أى 42 : 7 )
صدقوني لو لم تكن في هذا المزمور الثالث سوى عبارة } يا رب لماذا { لكانت كافية ، كعبارة معزية لنا ، تعلمنا العتاب مع الله ..
انظروا كيف أن أيوب الصديق يقول : { أبعد يديك عني ولا تدع هيبتك ترعبني .. أتكلم فتجاوبني .. اعلمني ذنبي وخطيتي لماذا تحجب وجهك ، وتحسبني عدواً لك ؟ أترعب ورقة مندفعة ، وتطارد قشاً يابساً ؟! }
( أى 13 : 21 ـ 25 )
وألهنا الطيب لا يتضايق من عتاب أيوب .
ولا يعتبر المناقشة معه إقلاقاً لكرامته . كلا ، بل أن الله يحب أن نتكلم معه ونناقشه ، ويفرح بهذا ويسر ، لأن هذا العتاب دليل المحبة والدالة .
وأحياناً يفتح الله مجالاً للعتاب :
مثلما فعل مع أبينا إبراهيم ، حينما فتح معه موضوع إهلاك سادوم ، وقال له إبراهيم : { أفتهلك البار مع الأثيم ؟! .. حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر .. حاشا لك أديان الأرض كلها لا يصنع عدلاً ؟ } ( تك 18 : 23 ـ 25 )
وفعل هذا أيضاً مع موسى النبي ، حينما غضب الرب على الشعب لعبادتهم العجل الذهبي فقرر إهلاكهم . وكلم موسى في الأمر فعاتبه موسى بنفس العبارة : { يا رب لماذا ؟ } وقال له { لماذا يحمي غضبك على شعبك الذي أخرجته من مصر بقوة عظيمة ؟ .. لماذا يتكلم المصريون قائلين أخرجهم بخبث ليقتلهم في الجبال .. ارجع عن حمو غضبك وأندم على الشر بشعبك } ( خر 32 : 11 ، 12 )
القديسون يناقشون الله . ولكن هوذا أمر أخر :
الله يدعو إلي هذا النقاش ويقول نتحاجج ـ يقول الرب :
} إن كانت خطاياكم كالقرمز تبيض كالثلج {.. (إش18:1)
إن الذين يهربون من وجه الله خائفين ، واضح أنه ليس فيهم الحب ولا الدالة . لقد هرب أدم من وجه الله وأختبأ خائفاً ، ولكن الله دعاه ليسأله ويكلمه . وهرب يونان من وجه الله ، ولكن الله دعاه وكلمه وعاتبه . وشرح المر وأقنعه ( يو 4 ) .
لا مانع إذن من أن نقول لله } يا رب لماذا ؟{ مثلما قال داود في المزمور الثالث .
في الحقيقة يا أخوتي أن داود النبي ، حينما قال هذا المزمور كان يجتاز مأساة نفسية وعائلية ، بل أيضاً تجربة تهدد ملكه ، وربما تهدد حياته أيضاً ..
قاله وهو هارب من أبنه أبشالوم ، الذي تمرد عليه ، وأراد الاستيلاء على المملكة ..
والكتاب يشرح هذه القصة في عبارات مؤثرة قال فيها الوحي الإلهي { وأما داود فصعد في مصعد جبل الزيتون . كما يصعد باكياً ، ورأسه مغطى ، ويمشى حافياً وجميع الشعب الذين معه ، غطوا كل واحد رأسه ، وكانوا يصعدون وهم يبكون } ( 2صم 15 :30 ) .
واخبروا داود أن مستشاره أخيتوفل قد اشترك في الفتنة مع أبشالوم بكل ما له من دهاء ومن معرفة بأسلوب داود . كذلك شمعي بن جيرا لاقي داود في الطريق ، وكان يشتمه ويرشقه بالحجارة قائلاً له { أخرج أخرج يا رجل الدماء ورجل بليعال } ( 2صم 16 :5 ـ 7 ) .. { وكان الشعب لا يزال يتزايد مع أبشالوم } (2صم 15 : 12 ) . ودخل أبشالوم أورشليم هو وكل الشعب الذين معه . وبناء على مشورة أخيتوفل { دخل أبشالوم إلي سراري أبيه أمام جميع إسرائيل } ( 2 صم 16 : 15 ،22 ) . وهكذا كثر الذين يحزنون داود ، وأنقسم عليه كثيرين من شعبه وخانوه فوقف يرتل ويقول :
{
( كثر الذين يحزنونني} { كثيرون قاموا على }
أو كما قال الشاعر ، عند كثرة همومه في داخله :
لو كان هماً واحداً لاحتملته *** لكنه هم وثان وثالث
فلماذا يا رب كل هذا ؟ ولماذا تترك لعبدك هذا الحزن ، ولكثرة المحيطين به القائمين عليه ؟
بالذات ، بالنسبة إلي أبشالوم ، لم يخطئ إليه داود في شيء ، بل دفعته خيانته وهو ابن !
فلماذا يا رب ؟!
كيف أن هؤلاء الناس الذين هتفوا وقت الانتصار على جليات ، ينقلب فيهم كثيرون وينضمون إلي ابن خائن ، وهم يعرفون تماماً أنه خائن لأبيه ؟!
داود توجه بشكواه إلي الله نفسه ، الله القادر على كل شيء ، الذي يستطيع أن يحول الشر إلي خير ، الله الذي نفس أبشالوم في يده ، وكذلك نفس اختيوفل ، ونفس شمعي بن جيرا ، ونفوس الشعب كلها .
داود لم تستقطبه الأحزان وتعصره فيتركز فيها ، إنما ترك الأحزان واتجه إلي الله ليصلي .
متاعبه جعلته يقول يا رب .. يا رب كيف يحدث كل هذا وأنت ترى وتسمع ؟!
أنت يا رب الذي أشكو لك ، وأنت وحدك الذي تستطيع أن تعزيني وتستطيع أن تقويني وأنت تنقذني . أنت وحدك . لأن الشكوى لغير الله مذلة كما يقول المثل .. حينما أتكلم معك أجد راحة .. أجد الراحة في داخلي ، مطمئناً إلي عملك وتدخلك . وأجد الراحة أيضاً في الخارج نتيجة لعملك من أجلي . أنت الصدر الحنون الذي أتكئ عليه وأقول له لماذا ؟ أو كيف يحدث هذا ؟
لو قلت للناس لماذا تحزنونني ، لكانوا يعيروني بخطاياي ويشمتون بي ..
فهكذا فعل شمعي بن جيرا ، دون أن أقول له شيئاً .. قال شامتاً { أخرج أخرج يا رجل الدماء .. قد رد الرب عليك كل دماء بيت شاول الذي ملكت عوضاً عنه .. وها أنت واقع بشرك } ( 2صم 16 : 7 ، 8 ) .
ولعل هذه الضيقة التي أمر بها هي بسبب خطاياي .
الآن أتذكر يا رب كيف أنك أرسلت إلي ناثان النبي ، ليحمل إلي رسالة منك تقول { لماذا احتقرت كلام الرب لتعمل الشر في عينه . قد قلت أوريا الحثي بالسيف ، وأخذت آمراته لك امرأة .. والآن لا يفارق السيف بيتك .. قريبك يضطجع مع نسائك في عين هذه الشمس . قدام جميع إسرائيل } ( 2 صم 12 : 9 ـ 12 ) . أتراك عرفت لماذا كثر الذين يحزنونك ؟
ولكن داود على الرغم من خطيئته ـ يتذكر أيضاً قول ناثان النبي له :
} الرب قد نقل عنك خطيتك . لا تموت {( 2صم 12 : 13 ) .
لقد نقلها ووضعها على الحمل الذي يرفع خطايا العالم كله ( يو1 : 29 ) . إن داود يعرف تماماً قلب الله الحنون الذي هو نفسه يقول عنه : { لم يفعل معنا حسب خطايانا ولم يجازنا حسب آثامنا . لأنه مثل ارتفاع السموات فوق الأرض ، قويت رحمته على خائفيه . كبعد المشرق عن المغرب ، أبعد عنا معاصينا }
( مز103 : 10 ـ 12 ) . لذلك فإن داود يقول في مزاميره للرب :
أذكر يا رب رأفاتك ومراحمك ، فإنها ثابتة منذ الأزل . خطاياي شبابي وجهالاتي ، لا تذكر ( مز25 : 6 )
هل لا تزال تذكر لي يا رب تلك الخطية ؟! لقد تفاهمنا بشأنها ، واعتذرت لك عنها ، ونقلتها عني حسب وعدك الصادق الأمين . وأما أنا فبسببها كنت { أعوم في كل ليله سريري ، وبدموعي أبا فراشي } ( مز6 ) . فكيف تذكر لي يا رب آثامي ؟! { إن كنت للآثام راصداً يا رب ، يا رب من يثبت ؟! الآن من عندك المغفرة } (مز130 ) ( لا تدخل في المحاكمة مع عبدك فإنه لن يتزكى قدامك أى حي } ( مز142 : 2 ) .
نعم يا رب لقد كثر الذين يحزنونني . ولكن يقيناً أنت يا رب لست منهم . لأنك أنت عزائي وخلاصي
لذلك فأنني في وسط ضيقاتي ، أمسكت مزماري ، لأرتل لك هذا المزمور . حقاً : { أمسرور أحد ، فليرتل }
( يع 5 : 13 ) . أما أنا فأرتل لك وأنا في عمق متاعبي . لأن مسرتي فيك .
لست أحسب هذه الضيقات تأديباً منك لي ، إنما أحسبها تقربني إليك .
أما خطيئتي أنت قد غفرتها . وإن كنت ترى هذه العقوبات الأرضية نافعة لي ، فأنا اقبلها بشكر ، ولكن ترفق بفتاك ، كما قلت أيضاً { ترفقوا بالفتى أبشالوم } ( 2صم 18 : 5 ) على الرغم من خيانته وكل أخطائه .. لذلك أنا أسال { كيف كثر الذين يحزنونني ؟! كثيرون قاموا على } ..
حقاً إن كل الضيقات ليست من أجل خطايا .
إن أصحاب أيوب الصديق أخطأوا في حقه وأثاروه ،إذا اتهموه بأن تجربته كانت بسبب خطاياه (أى 4: 7 ، فخوفهم الله على ذلك لأنهم لم يقولوا الثواب (أى 42 :7 ) . والرجل المولود أعمى ، لما ظن التلاميذ أن عماه بسبب خطية ، أجابهم الرب قائلاً { لا هذا أخطأ ولا أبواه ، ولكن لتظهر أعمال الله فيه } ( يو9 : 3) . والبابا القديس أثناسيوس الرسولي تألم كثيراً وهو بار . رسالته الثانية إلي كورنثوس ( 2كو 11 ) . والكتاب يقول :{ كثيرة هي أحزان الصديقين ، ومن جميعها ينجيهم الرب } ( مز34 : 19 ) والسيد المسيح وهو قدوس القديسين قيل عنه انه { رجل أوجاع ومختبر الحزن } ( إش53 : 3 ) .
وعلى الرغم من أن بعض متاعب داود كانت بسبب خطيئته ، إلا أن كل متاعبه لم تكن هكذا ..
فقد صادف متاعب كثيرة جداً في حياته من شاول الملك ، وكان داود وقتذاك في عمق صلته بالرب ، وقد حل روح الرب عليه .. وهذه المتاعب الحاضرة ، وإن كان الرب قد أنذره بشيء منها في ( 2صم 12 ) . إلا أن داود ما كان يظن أن الضيقة ستأتي بهذا العنف ، وأن الذين يحزنونه سيكون بهذه الكثرة ، لذلك عاتب الرب قائلاً : { يا رب كيف كثر الذين يحزنونني . كثيرون قاموا على }
كانت الأحزان مع داود في بره وفي خطيئته .
لم تفارقه أبداً ، منذ صباه . ومزاميره تتحدث عن تفاصيل منها . وهنا يرى الأمور قد وصلت إلي خطورة . فيصرخ إلي الرب قائلاً :
ولعله شرح كلمة (كثيرين) بعبارة { ربوات الجموع المحيطين بي القائمين على } (مز3 :6 ) . هل إلى هذه الدرجة يا رب تسمح أن كل هؤلاء يقومون على ؟! أأنا أخطأت ؟ لقد اعترفت بهذا . ولكن قبل تلك الخطية قد كثر الذين يحزنونني . { مراراً كثيرة حاربوني منذ صباي } ( مز 129 : 1 ) . بل استطيع أن أقول { أكثر من شعر رأسي ، الذين يبغضونني بلا سبب } ( مز 69 : 4 ) { أحاطوا بي واكتنفوني . أحاطوت بي مثل النحل حول الشهد ، والتهبوا كنار في شوك } ( مز 118 : 11 ، 12 ) .
إنه عزاء كبير لنا ، أن نبياً عظيماً مثل داود ، تعرض لمضايقات الكثيرين ..
وعزاء أكبر أنه نجا من كل تلك الضيقات . وشعره واحدة لم تسقط من رأسه . بل { نجا مثل العصفور من فخ الصيادين } ( مز 124 : 7 ) مبارك الرب الذي لم يسلمه فريسة لأسنانهم .. حقاً أنه { بضيقات كثيرة ينبغي أن نرث ملكوت الله } ( أع 14 : 22 )
انظروا كم من ضيقات كثيرة تعرض لها يوسف الصديق
كثيرون قاموا عليه ، حتى أخوته . القي في بئر ، وبيع كعبد . وقامت ضده امرأة سيدة ، ولفقت له تهمة وهو البريء . وقام ضده فوطيفار ، فآخذه ووضعه في بيت السجن ( تك 39 : 17 ، 20 ) أتراه قال هذه العبارة قبل داود { يا رب كيف كثر الذين يحزنونني }
المؤمن عموماً محاطاً بأحزان وضيقات ..
لأبد أن يدخل من الباب الضيق ، ويسير في الطريق الكرب ، ويحمل صليبه باستمرار ، ويخرج إلي الرب خارج المحلة حاملاً عاره ( عب 13 : 13 ) . إن الرب لم يخف عنا ، بل قال لنا بوضوح :
{ في العالم سيكون لكم ضيق } ( يو 16 : 33 )
ولكن حيثما توجد التجارب ، يوجد الله المنقذ .
توجد المعونة الألهية التي تعطي عزاء وخلاصاً . إن الكتاب لم يقل فقط : { كثيرة هى أحزان القديسين } بل قال بعدها مباشرة { ومن جميعها ينجيهم الرب } ولم يقل فقط : { في العالم سيكون لكم ضيق } بل قال بعدها
{ لكن ثقوا أنا قد غلبت العالم }
أتذكر أنه في فترة ما ، كانت العصافير تشكل خطورة كبيرة على مؤونة الدير ..
كانت تأكل المحاصيل بعنف ، وكذلك الفاكهة .. وفيما أنا نازل من الدير ، سألت الآباء : { هل تريدون شيئاً أحضره لكم معي ؟ } . فقال أحد الآباء الكبار : { نريد فخاً لكي نصيد به العصفور } فقالت له : { سأحضره لكم . ولكن العصفور سأعلمه مزمور } فسألني : [ أى مزمور ستعمله للعصفور ؟ ] فأجبته : [ المزمور القائل : { نجت أنفسنا مثل العصفور من فخ الصيادين . الفخ أنكسر ونحن نجونا .. عوننا من عند الرب الذي صنع السماء والأرض } ( مز124 ) ] . نعم ، إن الفخ موجود في طريق المؤمنين . ولكن معونة الرب موجودة أيضاً ..
على أن الخطورة التي صادفت داود ، لم تكن مجرد أن كثيرين قاموا على ..
عبارة { كثر الذين يحزنونني } يمكن احتمالها . وعبارة { كثيرون قاموا على يمكن احتمالها أيضاً . أما الأمر الذي لا يحتمل فيمكن في عبارة { كثيرون يقولون لنفسي : ليس له خلاص بإله ..! } .
إن داود يعلم تماماً أن كل متاعبه السابقة ، وكل الأخطار التي حاقت به ، كان الله هو الذي خلصه منها . لقد خلصه الله من الأسد والدب ، حينما أخذا شاه من قطيعه . وكذلك الرب هو الذي خلصه من جليات . لذلك قال لشاول : { الرب الذي أنقذني من يد الأسد ومن يد الدب ، هو ينقذني من يد الفلسطيني } ( 1صم 17 : 37 )
وعبارة } الخلاص للرب { أو} الحرب للرب { من العبارات المشهورة جداً في فم داود وفي مزاميره
إنه يقول لجليات : { الحرب للرب ، وهو يدفعكم ليدنا } ( 1صم 17 : 47 ) . ويقول له أيضاً
{ أنت تأتي إلي بسيف وبرمح وبترس ، وأنا آتي إليك بأسم رب الجنود .. هذا اليوم يحبسك الرب في يدي .. } ( 1صم 17: 45، 46 )
وهكذا يقول بالنسبة إلي أعدائه : { أحاطوا بي مثل النحل حول الشهداء ، وباسم الرب انتقمت منهم .. دفعت لأسقط ، والرب عضدني . قوتي وتسبحتى هو الرب ، وقد صار لي خلاصاً } ( مز 118 ) .
وكما كان الله خلاصاً لداود من الأسد والدب ، ومن جليات ، كذلك كان له خلاصاً من شاول الملك
كم من مرة أراد شاول أن يقتله ، وكم مرة طارده من برية إلي برية . وكان الرب هو الذي يخلص داود . ولذلك قال داود لشاول . { الرب يقضي بيني وبينك } ( 1صم 24 : 12 ،15 ) .
ولما وقع شاول في يد داود ، قال لشاول : { قد دفعك الرب اليوم ليدي ، ولم أشأ أن أمد يدي إلي مسيح الرب . هودا كما كانت نفسك اليوم عظيمة في عيني ، كذلك فلتعظم نفسي في عيني الرب ، فينقذني من كل ضيق }
( 1صم 26 : 23 ، 24 ) .
فإن كان الرب ينقذه من كل ضيق ، إذن ما أخطر هذه الشماتة أنه ليش خلاص بإله .. ؟
إنهم يوفونه بهذا الأمر المرعب ، أنه ليس له خلاص بإله . وهذا التخويف لم يصدر من فم إنسان واحد ، بل يشكو داود في صلاته صائحاً { كثيرون يقولون لي ليس له خلاص بإله .. !}
إنه يصارح الرب بما يقوله الناس . ولكنه لا يصدق إطلاقاً هذا الذي يقولونه ..
خبراته مع الله المحب ، الله المعين ، المنقذ والمخلص .. وحياة الإيمان التي يحياها .. ووعود الله له .. كل هذا لا يجعله يصدق كلام الشماتة الذي يسمعه منهم . ربما يبدو أن الله قد { تأخر} عليه ، وأن معونته لم تأت حتى الآن .. ولكنها لابد آتية ! ، ولو في الهزيع الأخير من الليل ..
الله لن يتركه . مستحيل .. الخلاص آت ، لاشك في هذا .. مهما تأخر..
يقول لنفسي { ليس له خلاص بإله } .. لأنهم أعداء ، ولأنهم شامتون بما حدث لي . شامتون بخيانة أبشالوم وخيانة أخيتوفل ، وشتائم شمعي بن جيرا ..شامتون لأني خرجت من أورشليم حافياً وباكياً .. ولكنهم يقولون هذا الكلام بالأكثر ، لأنهم لا يعرفون الله ، ولا يعرفون محبته لي ، ولا علاقته بي .!
لذلك فإن داود قال بعدها : سلاه . وهي لإشارة لوقفة موسيقية ..
أي أنه يقول لفرقة الموسيقيين التي تتابعه في إنشاده . قفوا هنا لنتأمل هذا الأمر ، وأيضاً نغير اللحن . بل نغير هذا الذي يقوله الأعداء والشامتون .. وقفة هنا . لأني لا أقبل هذا الكلام .
إنها أول مرة ترد فيها كلمة } سلاه { في مزامير داود
لم ترد في المزمور الأول ، ولا في المزمور الثاني . وهنا ترد لأول مرة في المزمور الثالث . وقد وردت 74 مرة في مزامير داود . عبارة عن وقفة موسيقية لتغيير اللحن ، وربما لتقديم معنى جديد وفكر جديد .. بل قفوا أيها الموسيقيون ، لأني بدلً من الكلام عن الناس ، سأتكلم مع الله . لي حديث معه عما يقوله الناس ..
حقاً يا رب أنني أخطأت إليك ، } والشر قدامك صنعت { ( مز 50 ) . ولكنك لا يمكن أن تتخلى
إن تخلى عني الكل ، فأنت لا تتخلى . وإن لن يتقدم أحد لخلاصي ، فهذا أمر لا يتعبني ، بل ولا يدهشني . المهم أنك أنت لا تتخلى ، لأن الخلاص هو من عندك . ومهما كنت خاطئاً ، فأنت { لم تصنع معنا حسب خطايانا } . محال أن أصدق أنك تنظر إلي في ضيقتي ولا تبالي ! لأني أنا عبدك وابن أمتك ( مز 115 ) . ومهما أخطأت : يدك يا رب على ، يدك لا عصاك . وحتى إن كانوا كثيرون قد قاموا على ، وأرادوا لي الموت ، فأنا { إن سرت في وادي ظل الموت ، لا أخاف شراً ، لأنك أنت معي } ( مز 23 ) .. { إن يحاربني جيش ، فلن يخاف قلبي . وإن قام علي قتال ففي ذلك أنا مطمئن } ( مز27 : 3 )
عبارة} ليس له خلاص بإله { ، هي عبارة تشكيك في معونة الله . أنها من عمل الشيطان ..
هو الشيطان الذي وضع هذا الكذب وهذا الإدعاء في أفواههم ، لكي يقلل إيماني بك وبمحبتك ومعونتك ، لكي يدفعني إلي اليأس والاستسلام ، لكي يشكك الناس أيضاً في مساندة الله لأولاده . أما انا فلا أيأس أبداً من معونتك .
مهما } تأخرت { معونتك ، فأنا مازلت أنتظرك ، في ثقة وفي إيمان ..
{ الرب عوني فلا أخشى ماذا يصنع بي الإنسان . الرب لي معين ، وأنا أرى أعدائي } ( مز118 : 6 ، 7 ) . بهذه الثقة أنتظر الرب ، وانتظر الرب من محرس الصبح إلي الليل ( مز 130 ) .
حتى إن كان الله يعاقب أحياناً ، فإنه شفوق في عقابه .
لذلك فأنا { أقع في يد الله ، ولا أقع في يد إنسان ، لأن مراحم الله واسعة } ( 1 أى 20 :13 ) . الله الذي لا يقصف قصبة مرضوضة ، ولا يطفئ فتيلة مدخنة ( مت 12 : 20 ) . الله الذي { يجرح وعصب }
( أى 15 : 18 ) .
عبارة } ليس له خلاص بإله { تذكرني بالكلمات القاسية التي تلفظ بها أصحاب أيوب
كم كان أشدها أيلاماً لنفس متمرمرة ، جرحوا بها إنساناً باراً . ولكن الله بكتهم ( أى 42 : 10 ) .. وفيما بكتهم { رد الله سبى أيوب } ( أى 42 : 10 ) . لأن الله لا يترك أولاده . وهكذا نحن { متحيرين لكن غير بائسين . مضطهدين لكن غير متروكين . مطروحين لكن غير هالكين } ( 2 كو 4 : 8 ، 9 ) . فليقل الناس إذ ما يقولون .. وليستخدموا أسلحة الشماتة والتشكيك .
أما أنا يا رب ، فإني أعرف من أنت :
أنت يا رب ناصري (1) ، مجدي ورافع رأسي .
وكأني بالبعض يسمع داود فيتعجب .. ماذا تقول أيها المسكين ؟ { ناصري ؟! ومجدي ؟! ورافع رأسي ؟! } كيف هذا ؟ وأنت قد خرجت باكياً وحافياً ، وكل الذين وراءك يبكون معك !! وصديقك حوشاي الأركي لما أتى للقائك ، جاءك ممزق الثوب والتراب على رأسه ( 2صم 15 : 32 ) ! هل في هذا مجد ونصرة ؟! وهوذا شمعي بن جيرا يشتمك ويقول : { اخرج يا رجل الدماء ورجل بليعال } وأنت تقول لاصحابك في مذلة :
{ دعوه يسب ، لأن الرب قال له سب داود .. لعل الرب ينظر إلي مذلتي ..} ( 2صم 16 : 5 ـ 12 ) . هل تقول بعد كل هذا { مجدي ورافع رأسي } ؟!
ولكن داود قال عبارته هذه بروح الإيمان ، غير ناظر إلي ما هو فيه ، وإنما إلي معونة الرب الآتية . لم يكن يحيا في الضيق الحاضر ، وإنما في الفرح المقبل ، وفي قلبه } الإيقان بأمور لا ترى { ( عب 11 : 1 )
كان وهو في مرارة ضيقته ، يرى خلاص الرب ماثلاً أمامه ، حتى قبل أن يأتي . أنها فضيلة الرجاء ، التي لا تعرف ضيقاً ولا يأساً . وليس الرجاء فقط ، وإنما أيضاً { الثقة بما يرجى } ( عب 11 : 1 ) . يتدرج منها الإنسان المؤمن إلي قول الرسول : { فرحين في الرجاء } ( رو 12 : 12 )
المتاعب موجودة والله أيضاً موجود . الإيمان به وبعمله ، يغطى على كل المتاعب ، فلا نراها ، إنما نرى عمل الله ونفرح به ونتغنى به في مزاميرنا
ونقول في عمق المتاعب : { أنت يا رب ناصري . مجدي ورافع رأسي } . أنت يا رب ضابط الكل . أنت لم تخلق الكون وتتركه . إنما أنت ترعاه . أنت تنظر إلي كل ما يحدث على الأرض ، وتقيم العدل بين الناس . وكما قال نبيك ملاخي : { والرب أصعي وسمع ، وكتب أمامه سفر تذكرة } ( ملا 3 : 16 )
أتراك لم تنظر أبشالوم وشمعي وأخيتوفل ؟ كلا بل رأيتهم في غرورهم وثورتهم وخيانته ، ورأيتني فيما أنا فيه من ظلم و مذلة
هذا انا اسمع صوتك
} من اجل شقاء المساكين وتنهد البائسين، الآن أقوم - يقول الرب-اصنع الخلاص علا نية { (مز 11)
وداود يحس بهذا تماما، فيقول في كثير من المناسبات آن الله ترس لي (مز3:3) درع واق من كل ضربات الأعداء . ترس أ و درع من كل سهام شاول الملك(2صم10 ) بل من { كل سهام الشرير الملتهبة } (أف 6 :16) . نعم انه الله الذي :{ لا يترك عصا الخطاة تستقر على نصيب الصديقين . . . } (مز 125 : 3 ) .
إنه أله المساكين والضعفاء والعاجزين أمام من هو أقوي منهم ..
نقول له في صلواتنا الطقسية : { يا معين من ليس له معين ، ورجاء من ليس له رجاء ، وعزاء صغيري النفوس ، ميناء الذين في العاصف } . ويقول داود النبي : { جميع عظامي تقول يا رب من مثلك : المنقذ المسكين ممن هو أقوى منه ، والفقير والبائس من سالبه } ( مز 35 : 10 ) .
لذلك بينما يعتمد الأقوياء على أنفسهم ، نجد الضعفاء يصرخون إلي الله ..
إن داود لم يصرخ إلي الله ، حينما كان شاعراً بقوته وبقدرته على ضرب نابال الكرملي ( 1صم 25 : 13 ، 22 ) . ولكنه صرخ إلي الله وهو شاعر بعجزه أمام شاول ، وبعجزه أمام أبشالوم ، بسبب قوتهما من جهة . ومن جهة أخرى لأن شاول هو مسيح الرب وأبشالوم هو ابن داود . لذلك فهو عاجزاً عن ضربهما لأسباب نفسية في داخله ، وأيضاً لأنهما لا يباليان بأي تصرف بسبب انحدار مستواهما الروحي .. ولهذا فإنه يصرخ إلي الله : يا رب كيف يحدث هذا ؟ كيف كثر الذين يحزنونني ؟
حقاً ، كلما وقف الإنسان ضعيفاً أمام الله ، كلما كان مستحقاً لمعونته الإلهية
لأنه من عمل الرب أن يبشر المساكين ، ويعصب منكسري القلوب ( أش 61 : 1 ) . وكما قال الرب في رعايته لغنمه : { أنا أرعى غنمي وأربطها .. وأجبر الكسير ، وأعصب الجريح .. } ( خر 34 : 15 ، 16 ) . وهنا كان داود في موقف الكسير الجريح . لم يكن الملك العظيم الجالس على عرشه ، وإنما كان الملك الطريد الهارب من وجه أعدائه ..
إن القوى عرضه للسقوط أكثر من غيره ، غالباً بسبب كبريائه واعتزازه وبقوته !
لأنه { قبل الكسر الكبرياء ، وقبل السقوط تشامخ الروح } ( أم 16 : 18 ) . فالأقوياء من فرط غرورهم بقوتهم لا يحترسون ، فيسقطون لقلة الحرص . ومن ثقتهم بأنفسهم لا يشعرون بحاجتهم إلي قوة خارجية ، فلا يصلون طالبين معونة . وإذ يبعدون أنفسهم عن عمل النعمة يسقطون . ولذلك قيل عن الخطية أنها : { طرحت كثيرين جرحى ، وكل قتلاها أقوياء } ( أم 7 : 26 ) .
وكان داود يصلي لينقذه الرب من الأقوياء
كان يقول : { اللهم باسمك خلصني .. فإن الغرباء قد قاموا على ، والأقوياء طلبوا نفسي . لم يجعلوا الله أمامهم } ( مز54 : 1 ،3 ) . وهكذا كان كل الأقوياء الذين قاموا ضد داود : الأسد والدب ، وجليات ، وشاول ،وأبشالوم . وكلهم { لم يجعلوا الله أمامهم } واختبر داود كيف أن الله نصره ضد كل هؤلاء .فقال له هنا : { أنت ناصري رافع رأسي } أنت كنت درعاً وترساً لي ، اصد به كل سهام أعدائي .. وهكذا لم يمت شاول بيد داود ، ولا مات أبشالوم بيد داود ، لأن الحرب للرب الرب هو الذي خلصه منها ..
حقاً ، كما قال موسى النبي : { لا تخافوا قفوا وانظروا لاص الرب .. الرب يقاتل عنكم وأنتم تصمتون }
( خر 14 : 13 ، 14 ) وبالنسبة إلي داود ، لم يكن الرب فقط ترساً له ، درعاَ يصد الهجمات ، إنما يقول عنه بالأكثر : { مجدي ورافع رأسي } ..
هوذا الرب يقول عنه في المزمور : { لأنه تعلق بي أنجيه . أرفعه لأنه عرف أسمي .. معه أنا في الضيق : أنقذه وأمجده } ( مز 91 : 14 ، 15 ) . لم يقل فقط : { أنجيه } ، إنما قال بعدها أيضاً { أرفعه } . ولم يقل فقط { أنقذه من الضيق } ، وإنما قال أكثر من هذا : { وأمجده } . وهذا هو الذي حدث مع داود .
أنقذه الرب من جليات الجبار . وأيضا مجده الله في هذه المناسبة ورفع رأسه .
فخرجت النساء تغنين بالدفوف والفرح والرقص قائلات : { ضرب شاول ألوفه ، وداود ربواته } ( 1صم 18 : 6 ، 7 ) .
وتعين داود رئيساً على رجال الحرب ، ونال محبة جميع الشعب ، وألبسه الأمير يوناثان ثيابه وقوسه ومنطقته ، وبعد هذا أمكن أن يتزوج داود ميكال ابنه الملك ، وأعانه الله في إنتصارات أخرى ( 1صم 19 ) بل قيل عنه أيضاً : { كان داود يفلح أكثر من جميع عبيد شاول فتوقر أسمه جداً } ( 1صم 19 : 35 ) .
كذلك لم ينقذه الرب فقط من شاول الملك ، إنما مجده بعدها ورفع رأسه .
مات شاول الملك الذي كان يطلب نفسه . وهكذا تخلص داود من كل محاولات شاول لقتله . وبموت شاول رفع الله داود إلي كرسي الملك ، فأتوا ومسحوه ملكاً على بيت يهوذا ( 2صم 2 : 4 ) .
{ وكان داود يذهب يتقوى ، وبيت شاول يذهب يضعف } ( 2صم 3 : 1 ) . وخلصه الرب من أبنير قائد جيش شاول ، فمات ( 2صم 3 : 30 ) { وجاء جميع أسباط إسرائيل إلي داود إلي حبرون ، وتكلموا قائلين هوذا نحن عظمك ولحمك .. ومسحوا داود ملكاً على إسرائيل } ( 2صم 5 : 1 ، 3 ) . واستقر له الأمر كملك على الشعب كله .. ورفع الله رأسه .
تذكر داود كل هذا ، عند قيام أبشالوم ضده . ونال عزاء داخلياً من ذكرياته فقال :
لا شك أن القلب يتعزى ، وإيمانه يتقوى، كلما يذكر إحسانات الله السابقة إليه ، وكلما يذكر صلواته التي استجابها الله من قبل .. هذه الذكريات تشعر الإنسان بمحبة الله وعمله ، فيقول لنفسه : أن الذي استجاب في القديم ، هو أيضاً يستجيب الآن وكل آوان . وهكذا نحن نقول في القداس الألهي :
} يالذي بارك في ذلك الزمان ، الآن أيضاً بارك { ..
خلاص الرب لداود ، كان هو قصة حياته كلها . كلما تذكر تفاصيل حياته ، يذكر خلاص الرب . ولهذا نجد في الكتاب عبارة معزية جداً ، يقول فها الوحي الإلهي : { وكان الرب يخلص داود حيثما توجه } ( 2صم 8 : 6 ).
هذا الخلاص لم يستطع داود أن ينساه في وسط ضيقاته . بل هذا الخلاص لا تنساه الكنيسة كلها ..
التاريخ طويل ، حافل بالذكريات المحببة للنفس . إن الذي أنقذ من نيرون هو الذي أنقذ أيضاً من ديوقلديانوس ومن أريانوس والى أنصنا ، ومن كثيرين بعدهم . وكل آلة صورت ضد أولاد الله لم تنجح ( أش 54 : 17 ) . وبهذه الذكريات يتعزى القلب الصارخ إلي الله ، مهما كانت الصعوبات الواقفة أمامه . يتذكر قول الرب عن رز بابل ، عند إعادة بناء الهيكل .
} من أنت أيها الجبل العظيم ؟! أمام رز بابل تصير سهلاً } ( زك 4 : 7 )
كثيراً ما صرخ داود إلي الله فاستجاب له . ولم ينس هذه الاستجابة ، بل تذكرها ليتعزى بها .. إنه لم يعش حياة سهلة ، وإنما صار في طريق محفوف بالضيقات والمتاعب ، وقد نجاه الرب بصلوات مستجابة ، حتى قال : { كثيرة هى أحزان الصديقين ، ومن جميعها ينجيهم الرب . يحفظ الرب جميع عظامهم ، وواحدة منها لا تنكسر } ( مز 83 ) .
خبرات الإنسان مع الله ، تشجعه في وقت الضيق . وهنا داود يتذكر خبراته ..
{ بصوتي إلي الرب صرخت فاستجاب لي } . وعبارة { صرخت } تدل على عمق الصلاة وعمق الحاجة ، وعمق الشدة التي هو فيها . ومزامير داود مملوءة بصراخه إلي الرب . ويمكن أن تتبعوا كلمة صرخت فيباقي المزامير . نجد لها مثيلاً في صلاة يونان وهو في بطن الحوت .. كان ولا شك في شدة يناسبها الصراخ . فقال للرب : { صرخت من جوف الهاوية ، فسمعت صوتي } ( يون 2 : 2 ) . صرخت والرب استجاب { وأمر الرب الحوت فقذف يونان إلي البر } ( يون 2 : 10 ) .
الإنسان يرفع صلواته إلي أقداس الله ..
لذلك يقول هنا : { استجاب لي من جبل قدسه } . ويقول في ( مز 19 ، 20 ) { الآن علمت أن الرب خلص مسيحه .. واستجاب له من سماء قدسه } . لذلك من المفروض أن تكون الطلبات مقدسة ، أو على الأقل طلبات تتفق مع مشيئة الله ..
يستطرد داود في ذكر خبراته مع الله فيقول :
عجيب أن داود يستطيع أن يضطجع وينام ، مع وجود كثيرين يحزنونه ، وربوات من الجميع محيطين به . الوضع العادي أن يطير النوم من عينه ، وسط هذه الأحزان والتهديدات الخارجية .. انظروا ماذا قيل عن داريوس الملك ، حينما ألقى دانيال في جب الأسود .. يقول الوحي الإلهي عنه : { حينئذ مضى الملك إلي قصره ، وبات صائماً .. وطار عنه نومه } ( دا 6 : 18 ) .
ولكن على الرغم من الضيقات ، ينام الإنسان الذي يكون قلبه مملوءاً بالإيمان وبالسلام ..
بمثل هذا الإيمان وهذا السلام ، نام بطرس الرسول في السجن محروساً بأربعة من العسكر ، وقد نوى الملك هيرودس أن يسلمه بعد الفصح إلي اليهود ( بعد ايام ) ليقتلوه ( أع 12 : 3 ، 4 ) . ولم ينام نوماً قلقاً ، وإنما نوماً ثقيلاً ، لدرجة أن الملاك الذي جاء لإنقاذه ، ضربه في جنبه لإيقاظ ( أع 12 : 7 ) .. وهكذا اضطجع داود ونام ..
الضيقات كانت خارجة ، تضغط من الخارج ، ولو تدخل إلي داخل نفسه فتقلقه وتمنع عنه النوم
ولذلك استطاع أن ينام ، ليس نوم الغفلة ، ولا نوم الموت ، ولكن نوم الثقة . نام في أحضان الله الحنون . أبشالوم ومعه الجيش يطارده ، وهو في البرية ينام . تاركاً الرب يستر ويحفظ ..
كان داود في نومه ، أكثر اطمئنانا من أبشالوم المعتزل بقوته .. لذلك قال : } أنت اضطجعت ونمت { ..
ولكنني حينما أصل في تأملاتي معكم إلي هذه الآية بالذات ، أتذكر أننا نذكرها في ليلة الجمعة الكبيرة في وقت ( الدفنة ) ، حينما نتذكر في الطقس دفن السيد المسيح ، ونقرأ المزامير ..
نصلي المزمور إلي عبارة } اضطجعت ونمت { التي تتنبأ عن موت المسيح . ثم نمت ولا نكمل المزمور . وفي صلاة ليلة القيامة ، نكمل ونقول : } ثم استيقظت { تشير إلي قيامة السيد المسيح ..
فالنوم يرمز أحياناً إلي الموت . وحينما تكلم الرب عن موت لعازر ، قال لتلاميذه القديسين : { لعازر حبيبنا قد نام ، لكني أذهب لأوقظه } ( يو 11 : 11 ) وكان يتكلم بالرمز عن موت لعازر . ويقصد بكلمة { أذهب لأوقظه } أي أذهب لأقيمه من الأموات . وهنا نفس المعنى في عبارة { أنا اضطجعت ونمت ثم استيقظت } .. بالنسبة إلي السيد المسيح . وهذا التفسير يدلنا على أن هناك ثلاث اتجاهات في تفسير هذا المزمور وتأملاته :
الإتجاه الأول في التفسير ، خاص بداود الملك ومتاعبه وأحزانه . ومثاله كل ما قلناه في الصفحات السابقة
الاتجاه الثاني في التفسير ، خاص بالسيد المسيح له المجد ومثاله ما قلنا في تطبيق الآية : { أنا اضطجعت ونمت ثم استيقظت } على موت السيد المسيح وقيامته . وهو منهج واضح في طقس الجمعة الكبيرة . وهو أيضاً المنهج الذي يستخدمه القديس أوغسطينوس في تفسير كثير من المزامير .
الاتجاه الثالث في تفسير هذا المزمور ، هو اتجاه روحي ، ينطبق على كل إنسان في حياته الخاصة . وسنعرض له أن شاء الله في صفحات مقبلة من هذا الكتاب ..
نبدأ من أول المزمور . ونرى السيد يقول للآب : { يا رب ، كيف كثر الذين يحزنونني كثيرون قاموا على ؟! } كيف أمكن أن يجتمع ضدي كل هؤلاء في كثرتهم : الكتبة والفريسيين والصدوقيين والشيوخ والكهنة ورؤساء الكهنة ، وهذه الجموع من الشعب الذي أحسنت إليه .. ! حقاً أنه أمر يدعوا إلي العجب .
وعجيب أيضاً أن يظنوا أنني أريد الخلاص من الصليب ( مت 27 : 42 ) ! ويقولون عني في ذلك : { ليس له خلاص بإله } ! { أتركه لنرى إيليا ليخلصه } ( مت 27 : 49 ) . وكانوا يستهزئون به قائلين : { أن كنت أنت المسيح فخلص نفسك } ( لو 23 : 39 ) . وكانوا يرون أن موته هو نهايته وأنه لن يكن له خلاص بعد ذلك .
أما أنت يا رب فعوني ، ناصري على كل هؤلاء ، مجدي ورافع رأسي . في نفس عملية الصليب مجد للابن ، وفي قيامته مجد قال حينما اقترب إلي الجلجثة { أيها الأب قد آتت الساعة . مجد أبنك ليمجدك أبنك أيضاً } ( يو 17 : 1 ) كان يرى مجده في صليبه . مجد الحب والبذل ، ومجد القضاء على دولة الشيطان ، وشراء الخليقة بالدم الكريم . مجد الملكوت الذي سيؤسسه بدمه . مجد الفداء والكفارة . المجد الذي سيرفع رأسه كمخلص للعالم كله بموته . لأنه بموته سيدوس الموت ، ويدوس إبليس الذي أدخل الموت إلي العالم . هذا هو المجد أن الابن سحق رأس الحية على صليبه ومجده في القيامة أمر واضح للكل .
{ أنا اضطجعت ونمت ثم استيقظت } . أنا لم أمت الموت الذي يظنونه النهاية .. فروحي خالدة لا تموت . وأنا بلاهوتي حتى لا أموت . إنما هذا الموت أشبه بنوم استيقظت منه بالقيامة . حقاً انفصلت فيه الروح عن الجسد ، لتوفي العدل الإلهي ، صم عادت إلي جسدها بقيامة مجيدة داست بها الموت إلي الأبد .
لذلك { لا أخاف من ربوات الجموع المحيطين بي القائمين على } الصارخين في جهالة قائلين :
{ أصلبه أصلبه } غالبية هؤلاء سيرجعون إلي تائبين لينضموا إلي الإيمان .. وليس لأحد من هؤلاء سلطان
على . لي نفس أنا أضعها من ذاتي . { أضع نفسي لآخذها أيضاً . ليس أحد يأخذها مني . لي سلطان أن أضعها . ولي سلطان أن آخذها أيضاً } ( يو 10 : 17 ، 18 ) ..
إما أن يطبق المصلي هذه الآيات على نفسه في مشاكله وأحزا نه وكثرة الأعداء المحيطين به .
وإما أن يأخذها بطريقة روحية ، فينادي الرب طالباً عوناً في حروبه الروحية قائلاً : كيف يا رب كثر الذين يحزنونني . كثيرون قاموا على : حروب من الأفكار ، وحروب من الحواس ، وحروب من مشاعر القلب وشهواته ، وحروب من الشياطين ، وعثرات من الناس ، وسقطات من اللسان ..
وكل هذه الحروب في ضغطاتها ، تشمت بسقطاتي ، وتحاربني باليأس قائلة { ليس له خلاص بإله } .. كما لو كان الرب قد تركني ، ونعمته قد تخلت عني ، وأسلمني للهلاك ..
ولكنك يا رب بقلبك الحنون ، لن تتركني في خطاياي . أنت ترس لي . أنت ناصري . لابد ستقيمني من سقطتي ، وتردني إلي رتبتي الأولي ، وتغسلني فأبيض أكثر من الثلج ، وتمنحني بهجة خلاصك وتعود فترفع رأسي ، وترجعني إلي صورتي الأولي ، فأتمجد بك .
هكذا فعلت مع الخاطئة يهوذا في سفر حزقيال النبي . قلت : { رأيتك مدوسة بدمك فبسطت ذيلي عليك وسترت عورتك .. ودخلت معك في عهد – يقول السيد الرب فصرت لي . فحممتك بالماء { أي في المعمودية } ومسحت بالزيت أي { بمسحة الميرون المقدسة } .. وألبستك مطرزة وكسوتك بزاً
{ أي تبررات القديسين } .. ووضعت تاج جمال على رأسك .. وجملت جداً جداً ، فحصلت لمملكة . وخرج لك أسم في الأمم لجمالك ، لأنه كان كاملاً ببهائي الذي جعلته عليك } ( حز 16 : 6 – 14 ) .
وهكذا يجد الخاطئ أن الله يرفع رأسه ، بل يضع تاج جمال لى رأسه .
وذلك بأنه يطهره وينقيه من كل نجاساته ، كما وعد في سفر حزقيال قائلاً : { وأرش عليكم ماء طاهراً فتطهرون من كل نجاستكم .. أعطيكم قلباً جديداً ، وأجعل روحاً جديدة في داخلكم . وانزع قلب الحجر من لحمكم وأعطيكم قلب لحم وأجعل روحي في داخلكم وأجعلكم تسلكون في فرائضي } ( حز 36 : 25 ـ 27 ) .. كل هذا يا رب .
حقاً أنت يا رب ناصري . ومجدي ورافع رأسي . وقد كذب الذين قالوا عني : ليس له خلاص بإله .
إن كنت قد سقطت ، فأنا بمعونتك سأتوب .. لقد اختبرت هذا في حياتي ، لأني مراراً كثيرة { اضطجعت ونمت ثم استيقظت } لأنك أنت يا رب ناصري على كل ضعفاتي .. ما أكثر ما أصابني الخمول في روحياتي ، ثم تأتي بعده يقذه روحية ، أسمعها فيها يقول الرسول :
{ استيقظ أيها النائم ، وقام من الأموات ، فيضيء لك المسيح } ( أف 5 : 14 ) .
أشكر الله أني استيقظت . وكان النوم شيئاً عارضاً في حياتي . ولم تتركني النعمة الحافظة . لذلك مهما حاربني العدو بشتى الحروب الروحية ، { فلا أخاف من ربوات الجموع المحيطين بي ، القائمين على } . الله أقوى منهم جميعاً . يكفيني أن أصرخ إلي الله ، كما صرخت من قبل مراراً ، { فاستجاب لي من جبل قدسه }
10- وهكذا يستمر المزمور بالنسبة إلي الإنسان العادي سواء من جهة ضيقاته وأعدائه ، أو من جهة خطاياه
11- ويمكن أن هذا المزمور يقال على لسان الكنيسة باعتبارها جماعة المؤمنين وجسد المسيح .
وهكذا يتسع التأمل في المزمور ، ولا يقف عند اتجاه معين . والقديس أوغسطينوس بعد أن ركز على السيد المسيح في بادئ تفسيره ، عاد وطبقه على الكنيسة ، ثم على الفرد العادي ...
داود خانه أبشالوم . والسيد المسيح خانه يهوذا والشعب الذي هتف أصلبه أصلبه ..
داود صرخ { قائلاً كثيرون قاموا على } . والسيد المسيح كذلك قام عليه كثيرون .
وداود لم يكن ضد أبشالوم الذي خانه ، بل قال لقادة جيشه : { ترفقوا بالفتى أبشالوم } ( 2صم 18 : 5 ) ولما مات أبشالوم حزن عليه داود ، وبكى وهو يقول : { يا ابني أبشالوم ، يا ليتني مت عوضاً عنك يا ابشالوم ابني يا ابني } ( 2 صم 18 : 23 )
وكلمة أبشالوم معناها سلام أبيه ــ مكونة من مقطعين أب ، شالوم . ذلك لأن أبشالوم وإن كان ضد أبيه ، إلا أن أباه لم يكم ضده ، بل كان في سلام معه ، على الرغم من ثورة هذا الابن عليه .
والس