هذا المزمور ليس صلاة عادية ، بل صرخة خارجية من الأعماق إذ يقول " من الأعماق صرخت إليك يا رب " 00
هى
من عمق القلب ، من عمق الفكر ، من عمق المشاعر و الأحاسيس ، صرخت إليك 0 صرخت إليك ، من عمق احتياجى إليك 0 من عمق ضعفى و تعبى 0 من عمق السقوط الذى أنحدرت إليه ، واحتاج فيه إلى مغفرتك 0 من عمق الخطية صرخت إليك ، ومن عمق التعاسة التى تجلبها الخطية 0
من عمق الشعور بالعجز و الفشل الذى يجرنى أحيانا إلى خوف من الأعماق صرخت إليك يا رب ، يا رب استمع صوتى 0
من عمق المشاكل التى تحيط بى ، و لا أجد لها حلا إلا عندك 0 من عمق المتاعب و التجارب ، التى تأتى من الناس و من الشيطان 0 من عمق أخطار أشعر بها تقترب إلى 0 من عمق خجلى من نفسى وأمامى ضعفاتى و سقطاتى 0 من عمق الهاوية التى أنافيها 0 مثل يونان الهارب منك ، الذى صلى قائلا " دعوت من ضيقى الرب 00 صرحت من جوف الهاوية 00 " ( يون 2 : 2 ) 0
من عمق حزنى على نفسى ، من عمق خوفى 00 من كل هذه االأعماق صرخت إليك يا رب ، فاستمع صوتى 0
X X X
هناك أشخاص – وهم فى الأعماق – ومع ذلك لا يصلون و لا يصرخون 0 و آخرون يصلون ويصرخون ، ولكن ليس من الأعماق 0
أما أنا ففى الأعماق ، اصرخ إليك من الأعماق 0 أصرخ إليك لكى ترفعنى منها 0 أنت " المقيم المسكين من التراب و الرافع البائس من المزبلة 00 " ( مز 113 : 7 ) 0
انا من عمق ضعفى ، صرحت إلى عمق قدرتك 0 و من عمق احتياجى ، صرخت إلى عمق قدرتك 0 و من عمق احتياجى ، صرخت إلى عمق حنانك و محبتك 0 و من عمق سقوطى ، صرخت إلى عمق مغفرتك 0 و من عمق مشاكلى ، صرخت إلى عمق حكمتك التى تحل المشاكل 00
من عمق الهاوية ، صرخت إلى علو سمائك 0
X X X
إنه مزمور إنسان شاعر بخطيته ، و معترف بها ، ويطلب المغفرة أو هو مزمور إنسان فى عمق ضعفه ، يطلب المعونة
مهما كان فى أسوأ حالة ، لكنه يصلى 0 و حقا إن أعماق التعب و المذلة ، تساعد على الصلاة ، بل تدعو إليها و تمنحها عمقا 0
إن أعمق صلاة نصليها ، نرفعها و نحن فى أعمق التعب 0
وقد يسمح الله لنا بالتعب أحيانا ، لكى نصلى 0 ننزل إلى الأعماق ، فترتفع صلواتنا 0 وفى هذا المزمور ، يذكر المصلى اسم الرب 8 مرات 0
ويبدأ بعبارة " من الأعماق صرخت إليك يا رب ، يا رب استمع صوتى " 0
كثيراً ما يصلى الإنسان ، ولكنه قليلاً ما يصرخ فى صلاته 0 فالصراخ درجة أعمق ، يدل على مقدار الحاجة ، و جدية الصلاة
و هوذا أنا يا رب أصرخ إليك ، من أعماقى 0 أصرخ إليك كطفل يلجأ صارخا إلى أبيه القادر على معونته و هكذا أنا أصرخ إليك ، أيها الحنون ، القادر على كل شئ 0 إنها صرخة استغاثة ، وصرخه إيمان ورجاء و احتياج 0 صرخة قوية ، تذكرنى الشاعر المصرى ، الذى فى أحد أزجالة شرح قوة صرخته فقال " مثل صرخة غريق بينده لقارب نجاه 0 بينده بينده ، بكل قواه ، للحياة 00" 0
إنها صرخة ، و ليست مجرد نداء 0 صرخة تجذب حنان الرب كقول المزمور :
" من أجل شقاء المساكين ، وصراخ البائسين ، الآن أقوم – يقول الرب – أصنع الخلاص علانية " ( مز 12 : 5 ) 0
تذكرنا بقول الرب فى مثل قاضى الظلم " افلا ينصف الله مختارية ، الصارخين إليه نهاراً و ليلاً " ( لو 18 : 7 ) 0
و تذكرنا بقول الرب " إنى قد رأيت مذلة شعبى 00 سمعت صراخهم 00 فنزلت لأنقذهم " ( خر 3 : 7 ) 0 وقول الكتاب " صرخوا ، فصعد صراخهم إلى الله بسبب العبودية " ( خر 2 : 23 ) 0 ما أعمق عبارة " فصعد صراخهم على الله " 0
إن المزامير تقدم لنا أمثلة من الصراخ و الإستجابة ، كقوله : " بصوتى إلى الرب صرخت ، فاستجاب لى من جبل قدسه " ( مز 3 : 4 )
" فى ضيقتى صرخت إلى الرب ، فاستجاب لى " ( مز 20 : 1 ) 0 " فى ضيقى دعوت الرب ، وإلى إلهى صرخت 0 فسمع من هيكله صوتى 0 و صراخى قدامه دخل أذنيه " ( مز 18 : 6 )
و هكذا يصلى داود " صرخت من كل قلبى ، فاستجب لى يا رب " ( مز 119 : 145 ) 0 " أنصت يا رب إلى كلماتى ، واسمع صراخى 00 " ( مز 5 : 1 ) 0
وقدم لنا الكتاب مثالاً هو صراخ أهل نينوى فى توبتهم و مذلتهم :
إذ نودى فى المدينة " ليتغط الناس و البهائم بالمسوح ، ويصرخوا إلى الله بشدة 0 و يرجعوا كل واحد عن طريقه الرديئة" ( يون 3 : 8 ) 0 و قد سمع الله صراخهم ، و استجاب لهم ورحمهم 0
من العجيب أن أول صراخ فى الكتاب المقدس ذكر فى قول الرب لقايين :
" صوت دم أخيك صارخ إلى من الأرض " ( تك 4 : 10 )
X X X
وفى هذا المزمور ، يريد المرتل أن يصل صراخه إلى الله ، فيقول : " من الأعماق صرخت إليك يا رب ، يا رب استمع صوتى " 0
طبيعى أن الله يسمع يسمع كل ما فى الكون ، فما المقصود بكلمة " استمع صوتى " 0 و مثلها عبارة " اسمعنا " فى لحن ( افنوتى ناى
نان ) ؟
المقصود ليس مجرد سماع الأذن إنما الاهتمام و الاستجابة 0
مثلما نقول إن فلاناً من الناس له " كلمة مسموعة " أى أنها تصل إلى المسئولين و إلى كل المهتمين بالأمر ، و تحدث تأثيرها ، ويكون لها وزنها و تقديرها 0 و هكذا عندما يقول المصلى لله " اسمع صوتى " 0 أى اسمع بالاهتمام ، بالقلب بالإرادة بالاستجابة 0
ومن أشهر الصلوات فى هذا المجال ، صلاة سليمان يوم تدشين الهيكل 0
إذ قال للرب فى ذلك اليوم " لتكن عيناك مفتوحتين على هذا البيت ليلاً و نهاراً ، لتسمع الصلاة التى يصليها عبدك فى هذا الموضع 0 واسمع تضرع عبدك " ( 1مل 8 : 29 ، 30 ) 0
و ظل يستعرض حالات الشعب المحتاجة إلى معونة من الرب و استجابة 0 و يكرر فى كل مرة عبارة " و اسمع أنت فى موضع سكناك فى السماء " و فى إحدى المرات يقول " وإذا سمعت فاغفر " 0
وفى مرة أخرى يقول " اسمع 00 واعمل واعط كل إنسان حسب طرقه كما تعرف قلبه " 0 وفى مرة أخرى يقول " اسمع صلاتهم و تضرعهم واقض قضاءهم " ( 1مل 8 : 39 ، 49 ) 0
X X X
"اسمع صوتى " تذكرنا بقول المصلى فى المزمور الكبير " فلتدن و سيلتى قدامك 00 و لتدخل طلبتى إلى حضرتك " ( مز 119 : 169 ) 0
و هكذا يقول فى مزمور آخر " أيها الرب إله الجنود اسمع صلاتى 0 أصغ يا اله يعقوب 00 التفت إلى وجه مسيحك " ( مز 84 : 8 ) 0
إنه يطلب السمع و الإصغاء و الاهتمام ، بل و الاستجابة ، كما يقول : " اصغ يا رب إلى صلاتى ، انصت إلى صوت تضرعى 00 أستجب لى " ( مز 86 : 6 ، 7 )
X X X
يقول " اسمع صوتى " ذلك لأن هناك صلوات لا تسمع ، أى لا يلتفت الرب إليها ، و لا يقبلها 0 إنها صلوات مرفوضة 0
مثال ذلك قول الرب لليهود أيام اشعياء النبى ، حينما كانوا يحفظون الفرائض ويصلون من شفاههم لا من قلوبهم ، وهم بعيدون عن الله بخطاياهم 0 فقال لهم الرب " حين تبسطون أيديكم ، استر وجهى عنكم 0 وإن اكثرتم الصلاة ، لا اسمع 0 أيديكم ملآنة دما 00 " ( أش 1 : 15 )
X X X
فهل يمكن أن يسد الله أذنيه ، ويصد مثل هذا المصلى ؟
نعم ، هناك صلوات غير مقبولة ، مثل صلاة الفريسى فى مثل الفريسى و العشار ( لو 18 : 11 ، 12 ) 0 أو صلوات " المرائين فى المجامع و فى زوايا الشوارع لكى يظهروا للناس " ( مت 6 : 5 ) 0 أو كالكتبة و الفريسيين المرائين الذين " لعلة يطيلون صلواتهم " بينما هم يأكلون بيوت الأرامل " ( مت 23 : 14 )
كلها صلوات لا يسمعها الله ، أى لا تستحق أن يسمعها الله
X X X
فانا أصرخ إليك يا رب ، لكى تسمع صلاتى ، لكى تدخل صلاتى إلى حضرتك ، لكى تقبلها إليك ، على الرغم من خطاياى وعدم استحقاقى ، و على الرغم من شعورى بعدم وجود دالة حاليا بينى و بينك ؟!
كل ما ريده أن تصل صلاتى إليك 0 و أترك الباقى إلى محبتك ، أنت الذى لا تعاملنى بحسب خطاياى ، و إنما بحسب رحمتك 0
إننا نعرف أن احتياجاتنا تصل إليك ، حتى لو لم نصل !
كما قلت من قبل " قد رأيت مذلة شعبى 0 سمعت صراخهم بسبب مسخريهم 00 علمت أوجاعهم 00 فنزلت لأنقذهم " ( خر 3 : 7 ) فعلت ذلك على الرغم من أنهم لم يصلوا و قتذاك 0
X X X
كذلك قد يستمع الرب إلى دموعنا دون أن نصلى 0 كما يقول المرتل فى المزمور " أنصت إلى دموعى "
الدموع لها صوت يسمعه الله ، حتى و لو بدون صلاة 0 ولكن لها استجابة من قلب الله الحنون 0 أو حتى لو كان الإنسان يصلى فى قلبه ، وصوته لا يسمع ، كما كانت تفعل حنة طالبة من الله نسلا ، دون أن ترفع صوتها " ( 1صم 1 : 13 )
" استمع يا رب صوتى " 0 أشعرنى أنك أستلمت صلاتى ، و عرفتها 0 و دخل صراخى إلى أذنيك ، ويكفينى هذا 0
أصلى أن صلواتى تسمع 0 و سأستمر فى الصلاة حتى أتأكد من هذا 0 و اثقاً أنك مادمت قد سمعت الصلاة ، فسوف تتصرف 0
يقول المرتل بعد ذلك : إن كنت للآثام راصداً يا رب ، يا رب من يثبت ، لأن من عندك المغفرة 0
طبيعى أن الله يعرف كل خطية نرتكبها ، سواء بالقول ، أو بالفعل ، بالفكر ، أو بجميع الحواس 0 كما قال قال القديس يوحنا فى رؤياه : " و انفتحت أسفار 00 و دين الأموات مما هو مكتوب فى الأسفار بحسب اعمالهم " ( رؤ 20 : 12 ) 0 كما قال القديس بولس الرسول " لأنه لابد أننا جميعا نظهر امام كرسى المسيح ، لينال كل و احد منا ما كان بالجسد ، بحسب ما صنع خيراً كان أم شراً " ( 2كو 5 : 10 )
فما معنى " إن كنت للآثام راصداً " ، بينما الكل مسجل و مرصود ؟
إن الله كلى المعرفة ، و لا يخفى عليه شئ 0 إذن فهو يعرف و يرصد 0 و هو الذى وضع الضمير فى الإنسان الذى يرصد أعماله ، و بالأولى الله 0 وهو أيضاً القدوس الذى لا يقبل الخطية ، و العادل الذى لا يتساوى أمامه الطيب و الخبيث إذن ما المقصود بقول المرتل : إن كنت للآثام راصداً يا رب 00
أى إن كنت ترصد الآثام لتعاقب عليها 0 0 تخرنها لتديننا بها 0
إن كنت كذلك ، فمن يثبت ؟! كلنا خطاة 0 كلنا فى الموازين إلى فوق 0 إن حاسبتنا ، فسوف يستد كل فم 0 وكما فم 0 و كما يقول المرتل للرب فى مزمور آخر : " لا تدخل فى المحاكمة مع عبدك 0 فإنه لا يتزكى قدامك أى حى " ( مز 143 : 2 ) 0
أنت لا ترصد الخطايا ، بل تمحوها بالمغفرة 0
إنه كالطيب يرصد الأمراض لكى يعالجها ، وليس لكى يوبخ المريض عليها 0 كل علل المريض واضحة أمامه ، ولكن لكى يخلصه منها 0 و هكذا انت أيضاً قلت " لم آت لأدين ، بل لأخلص " 0 إن ابن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس ، بل ليخلص " ( لو 9 : 56) 0 و جاء يطلب و يخلص ما قد هلك " ( لو 19 : 10 ) 0 وكيف ذلك ؟ 00 بالمغفرة 0
طول أناته ، تقود إلى التوبة ( رو 2 : 4 ) 0 وبالتوبة المغفرة 0 و يتغنى المرتل بهذه الغفرة ، فيقول " طوبى للذى غفر إثمه و سترت خطيته 0 طوبى لإنسان لا يحسب له الرب الرب خطية " ( مز 32 : 1 ، 2)0 هذه الخطايا التى لا تحسب ، يقول عنها الرب فى سفر ارميا النبى " لأنى أصفح عن إثمهم ، و لا أذكر خطيتهم بعد " ( أر 31 : 34 ) 0
لا يحسب لنا خطايانا ، فى التوبة من جهتنا 0 و أيضاً فى المصالحة التى تمت على الصليب ، كما قال القديس بولس الرسول " إن الله كان فى المسيح مصالحاً العالم لنفسه ، غير حاسب لهم خطاياهم " ( 2كو 5 : 16 ) 0
الله إذن – فى المصالحة – لا يرصد الخطايا ، بل يمحوها 0
" إذ محا الصك الذى علينا 00 مسمراً اياه على الصليب ( كو 2 : 14 ) 0 و قال الرب " أنا أنا هو الماحى ذنوبك 0 و خطاياك لا أذكرها " ( أش 43 : 25 ) 0 و أيضاً " قد محوت كغيم ذنوبك ، و كسحابة خطاياك " ( أش 44 : 22 ) 0 كل ذلك بشرط التوبة 0
أنا من أجل اسمك ، صبرت إلى أن يأتى خلاصك 0 صبرت إلى أن تأتينى معونتك ، وإلى أن أنال مغفرتك
فما هو اسمك الذى صبرت له ؟
اسمك كمخلص 0 وعنك قال الملاك المبشر بميلادك : " و تدعو اسمه يسوع ، لأنه يخلص شعبه من خطاياهم " ( مت 1 : 21 ) 0 فكلمة يسوع معناها مخلص 0
وأيضاً صبرت من أجل اسمك ( عمانوئيل ) " الذى تفسيره الله معنا " ( مت 1 : 23 ) 0 فمادمت معنا ،إذن ساصير لعملك فينا ، و عملك من أجلنا 0
من أجل اسمك الحنون الشفوق الغفور ، الذى " لم يصنع معنا حسب خطايانا ، و لم يجازنا حسب آثامنا " ( مز 103 : 10 ) 00 الذى قيل عنه " الرب رحيم ورؤوف ، طويل الروح ، كثير الرحمة 0 لا يحاكم إلىالأبد ، و يحقد إلى الدهر " ( مز 103 : 8 ، 9 ) 0
من أجل اسمك هذا ، صبرت و أنا مملوء بالرجاء 0
صبرت و أنا واثق أنك ستعمل فى للتوبة و للمغفرة 0 و ستعمل فى لكى أنفذ وصاياك وناموسك 0
انتظرت نفسى لناموسك
انتظرت حتى يمكننى أن أنفذ ناموسك فى 0 صبرت حتى تأتينى المعونة التى أنفذ بها كل كلامك 0 أو فى ترجمة اخرى " أكثر من المراقبين الصبح " 0 أى الذين فى الظلمة و ينتظرون الصبح متى يجئ فهم يراقبون مجيئه 0
و هنا أراقب مجئ صبحك متى يأتى ليبدد ظلمتى 0
X X X
ثم يتحول من صلاته لأجل نفسه إلى الصلاة لأجل الشعب كله فيقول : أكثر من المراقبين الصبح فلينتظر اسرائيل الرب 0
و كلمة ( إسرائيل ) هنا لها معنى رمزى 0 أى الشعب كله فلينتظر الرب من الليل حتى الصبح 0
X X X
" لأن الرحمة من عند الرب ، و عظيم هو خلاصه ( فداؤه ) 0 وهو يفدى إسرائيل من كل آثامه " 0
هنا الذى يصرخ من الأعماق ، الذى ينتظر من الظلمة مراقباً الصبح متى يجئ ، إنما ينتظر خلاص الرب الذى سيأتى بالفداء 0 وهو خلاص ينتظره كل الشعب 0 و عنه عبر سمعان الشيخ بقوله " الآن يا رب تطلق عبدك بسلام ، لأن عينى قد ابصرتا خلاصك الذى أعددته قدام وجه جميع الشعوب " ( لو 2 : 29 / 30 ) 0 و المصلى واثق الرب سيفدى الشعب من كل آثامه 0
هى
من عمق القلب ، من عمق الفكر ، من عمق المشاعر و الأحاسيس ، صرخت إليك 0 صرخت إليك ، من عمق احتياجى إليك 0 من عمق ضعفى و تعبى 0 من عمق السقوط الذى أنحدرت إليه ، واحتاج فيه إلى مغفرتك 0 من عمق الخطية صرخت إليك ، ومن عمق التعاسة التى تجلبها الخطية 0
من عمق الشعور بالعجز و الفشل الذى يجرنى أحيانا إلى خوف من الأعماق صرخت إليك يا رب ، يا رب استمع صوتى 0
من عمق المشاكل التى تحيط بى ، و لا أجد لها حلا إلا عندك 0 من عمق المتاعب و التجارب ، التى تأتى من الناس و من الشيطان 0 من عمق أخطار أشعر بها تقترب إلى 0 من عمق خجلى من نفسى وأمامى ضعفاتى و سقطاتى 0 من عمق الهاوية التى أنافيها 0 مثل يونان الهارب منك ، الذى صلى قائلا " دعوت من ضيقى الرب 00 صرحت من جوف الهاوية 00 " ( يون 2 : 2 ) 0
من عمق حزنى على نفسى ، من عمق خوفى 00 من كل هذه االأعماق صرخت إليك يا رب ، فاستمع صوتى 0
X X X
هناك أشخاص – وهم فى الأعماق – ومع ذلك لا يصلون و لا يصرخون 0 و آخرون يصلون ويصرخون ، ولكن ليس من الأعماق 0
أما أنا ففى الأعماق ، اصرخ إليك من الأعماق 0 أصرخ إليك لكى ترفعنى منها 0 أنت " المقيم المسكين من التراب و الرافع البائس من المزبلة 00 " ( مز 113 : 7 ) 0
انا من عمق ضعفى ، صرحت إلى عمق قدرتك 0 و من عمق احتياجى ، صرخت إلى عمق قدرتك 0 و من عمق احتياجى ، صرخت إلى عمق حنانك و محبتك 0 و من عمق سقوطى ، صرخت إلى عمق مغفرتك 0 و من عمق مشاكلى ، صرخت إلى عمق حكمتك التى تحل المشاكل 00
من عمق الهاوية ، صرخت إلى علو سمائك 0
X X X
إنه مزمور إنسان شاعر بخطيته ، و معترف بها ، ويطلب المغفرة أو هو مزمور إنسان فى عمق ضعفه ، يطلب المعونة
مهما كان فى أسوأ حالة ، لكنه يصلى 0 و حقا إن أعماق التعب و المذلة ، تساعد على الصلاة ، بل تدعو إليها و تمنحها عمقا 0
إن أعمق صلاة نصليها ، نرفعها و نحن فى أعمق التعب 0
وقد يسمح الله لنا بالتعب أحيانا ، لكى نصلى 0 ننزل إلى الأعماق ، فترتفع صلواتنا 0 وفى هذا المزمور ، يذكر المصلى اسم الرب 8 مرات 0
ويبدأ بعبارة " من الأعماق صرخت إليك يا رب ، يا رب استمع صوتى " 0
كثيراً ما يصلى الإنسان ، ولكنه قليلاً ما يصرخ فى صلاته 0 فالصراخ درجة أعمق ، يدل على مقدار الحاجة ، و جدية الصلاة
و هوذا أنا يا رب أصرخ إليك ، من أعماقى 0 أصرخ إليك كطفل يلجأ صارخا إلى أبيه القادر على معونته و هكذا أنا أصرخ إليك ، أيها الحنون ، القادر على كل شئ 0 إنها صرخة استغاثة ، وصرخه إيمان ورجاء و احتياج 0 صرخة قوية ، تذكرنى الشاعر المصرى ، الذى فى أحد أزجالة شرح قوة صرخته فقال " مثل صرخة غريق بينده لقارب نجاه 0 بينده بينده ، بكل قواه ، للحياة 00" 0
إنها صرخة ، و ليست مجرد نداء 0 صرخة تجذب حنان الرب كقول المزمور :
" من أجل شقاء المساكين ، وصراخ البائسين ، الآن أقوم – يقول الرب – أصنع الخلاص علانية " ( مز 12 : 5 ) 0
تذكرنا بقول الرب فى مثل قاضى الظلم " افلا ينصف الله مختارية ، الصارخين إليه نهاراً و ليلاً " ( لو 18 : 7 ) 0
و تذكرنا بقول الرب " إنى قد رأيت مذلة شعبى 00 سمعت صراخهم 00 فنزلت لأنقذهم " ( خر 3 : 7 ) 0 وقول الكتاب " صرخوا ، فصعد صراخهم إلى الله بسبب العبودية " ( خر 2 : 23 ) 0 ما أعمق عبارة " فصعد صراخهم على الله " 0
إن المزامير تقدم لنا أمثلة من الصراخ و الإستجابة ، كقوله : " بصوتى إلى الرب صرخت ، فاستجاب لى من جبل قدسه " ( مز 3 : 4 )
" فى ضيقتى صرخت إلى الرب ، فاستجاب لى " ( مز 20 : 1 ) 0 " فى ضيقى دعوت الرب ، وإلى إلهى صرخت 0 فسمع من هيكله صوتى 0 و صراخى قدامه دخل أذنيه " ( مز 18 : 6 )
و هكذا يصلى داود " صرخت من كل قلبى ، فاستجب لى يا رب " ( مز 119 : 145 ) 0 " أنصت يا رب إلى كلماتى ، واسمع صراخى 00 " ( مز 5 : 1 ) 0
وقدم لنا الكتاب مثالاً هو صراخ أهل نينوى فى توبتهم و مذلتهم :
إذ نودى فى المدينة " ليتغط الناس و البهائم بالمسوح ، ويصرخوا إلى الله بشدة 0 و يرجعوا كل واحد عن طريقه الرديئة" ( يون 3 : 8 ) 0 و قد سمع الله صراخهم ، و استجاب لهم ورحمهم 0
من العجيب أن أول صراخ فى الكتاب المقدس ذكر فى قول الرب لقايين :
" صوت دم أخيك صارخ إلى من الأرض " ( تك 4 : 10 )
X X X
وفى هذا المزمور ، يريد المرتل أن يصل صراخه إلى الله ، فيقول : " من الأعماق صرخت إليك يا رب ، يا رب استمع صوتى " 0
طبيعى أن الله يسمع يسمع كل ما فى الكون ، فما المقصود بكلمة " استمع صوتى " 0 و مثلها عبارة " اسمعنا " فى لحن ( افنوتى ناى
نان ) ؟
المقصود ليس مجرد سماع الأذن إنما الاهتمام و الاستجابة 0
مثلما نقول إن فلاناً من الناس له " كلمة مسموعة " أى أنها تصل إلى المسئولين و إلى كل المهتمين بالأمر ، و تحدث تأثيرها ، ويكون لها وزنها و تقديرها 0 و هكذا عندما يقول المصلى لله " اسمع صوتى " 0 أى اسمع بالاهتمام ، بالقلب بالإرادة بالاستجابة 0
ومن أشهر الصلوات فى هذا المجال ، صلاة سليمان يوم تدشين الهيكل 0
إذ قال للرب فى ذلك اليوم " لتكن عيناك مفتوحتين على هذا البيت ليلاً و نهاراً ، لتسمع الصلاة التى يصليها عبدك فى هذا الموضع 0 واسمع تضرع عبدك " ( 1مل 8 : 29 ، 30 ) 0
و ظل يستعرض حالات الشعب المحتاجة إلى معونة من الرب و استجابة 0 و يكرر فى كل مرة عبارة " و اسمع أنت فى موضع سكناك فى السماء " و فى إحدى المرات يقول " وإذا سمعت فاغفر " 0
وفى مرة أخرى يقول " اسمع 00 واعمل واعط كل إنسان حسب طرقه كما تعرف قلبه " 0 وفى مرة أخرى يقول " اسمع صلاتهم و تضرعهم واقض قضاءهم " ( 1مل 8 : 39 ، 49 ) 0
X X X
"اسمع صوتى " تذكرنا بقول المصلى فى المزمور الكبير " فلتدن و سيلتى قدامك 00 و لتدخل طلبتى إلى حضرتك " ( مز 119 : 169 ) 0
و هكذا يقول فى مزمور آخر " أيها الرب إله الجنود اسمع صلاتى 0 أصغ يا اله يعقوب 00 التفت إلى وجه مسيحك " ( مز 84 : 8 ) 0
إنه يطلب السمع و الإصغاء و الاهتمام ، بل و الاستجابة ، كما يقول : " اصغ يا رب إلى صلاتى ، انصت إلى صوت تضرعى 00 أستجب لى " ( مز 86 : 6 ، 7 )
X X X
يقول " اسمع صوتى " ذلك لأن هناك صلوات لا تسمع ، أى لا يلتفت الرب إليها ، و لا يقبلها 0 إنها صلوات مرفوضة 0
مثال ذلك قول الرب لليهود أيام اشعياء النبى ، حينما كانوا يحفظون الفرائض ويصلون من شفاههم لا من قلوبهم ، وهم بعيدون عن الله بخطاياهم 0 فقال لهم الرب " حين تبسطون أيديكم ، استر وجهى عنكم 0 وإن اكثرتم الصلاة ، لا اسمع 0 أيديكم ملآنة دما 00 " ( أش 1 : 15 )
X X X
فهل يمكن أن يسد الله أذنيه ، ويصد مثل هذا المصلى ؟
نعم ، هناك صلوات غير مقبولة ، مثل صلاة الفريسى فى مثل الفريسى و العشار ( لو 18 : 11 ، 12 ) 0 أو صلوات " المرائين فى المجامع و فى زوايا الشوارع لكى يظهروا للناس " ( مت 6 : 5 ) 0 أو كالكتبة و الفريسيين المرائين الذين " لعلة يطيلون صلواتهم " بينما هم يأكلون بيوت الأرامل " ( مت 23 : 14 )
كلها صلوات لا يسمعها الله ، أى لا تستحق أن يسمعها الله
X X X
فانا أصرخ إليك يا رب ، لكى تسمع صلاتى ، لكى تدخل صلاتى إلى حضرتك ، لكى تقبلها إليك ، على الرغم من خطاياى وعدم استحقاقى ، و على الرغم من شعورى بعدم وجود دالة حاليا بينى و بينك ؟!
كل ما ريده أن تصل صلاتى إليك 0 و أترك الباقى إلى محبتك ، أنت الذى لا تعاملنى بحسب خطاياى ، و إنما بحسب رحمتك 0
إننا نعرف أن احتياجاتنا تصل إليك ، حتى لو لم نصل !
كما قلت من قبل " قد رأيت مذلة شعبى 0 سمعت صراخهم بسبب مسخريهم 00 علمت أوجاعهم 00 فنزلت لأنقذهم " ( خر 3 : 7 ) فعلت ذلك على الرغم من أنهم لم يصلوا و قتذاك 0
X X X
كذلك قد يستمع الرب إلى دموعنا دون أن نصلى 0 كما يقول المرتل فى المزمور " أنصت إلى دموعى "
الدموع لها صوت يسمعه الله ، حتى و لو بدون صلاة 0 ولكن لها استجابة من قلب الله الحنون 0 أو حتى لو كان الإنسان يصلى فى قلبه ، وصوته لا يسمع ، كما كانت تفعل حنة طالبة من الله نسلا ، دون أن ترفع صوتها " ( 1صم 1 : 13 )
" استمع يا رب صوتى " 0 أشعرنى أنك أستلمت صلاتى ، و عرفتها 0 و دخل صراخى إلى أذنيك ، ويكفينى هذا 0
أصلى أن صلواتى تسمع 0 و سأستمر فى الصلاة حتى أتأكد من هذا 0 و اثقاً أنك مادمت قد سمعت الصلاة ، فسوف تتصرف 0
يقول المرتل بعد ذلك : إن كنت للآثام راصداً يا رب ، يا رب من يثبت ، لأن من عندك المغفرة 0
طبيعى أن الله يعرف كل خطية نرتكبها ، سواء بالقول ، أو بالفعل ، بالفكر ، أو بجميع الحواس 0 كما قال قال القديس يوحنا فى رؤياه : " و انفتحت أسفار 00 و دين الأموات مما هو مكتوب فى الأسفار بحسب اعمالهم " ( رؤ 20 : 12 ) 0 كما قال القديس بولس الرسول " لأنه لابد أننا جميعا نظهر امام كرسى المسيح ، لينال كل و احد منا ما كان بالجسد ، بحسب ما صنع خيراً كان أم شراً " ( 2كو 5 : 10 )
فما معنى " إن كنت للآثام راصداً " ، بينما الكل مسجل و مرصود ؟
إن الله كلى المعرفة ، و لا يخفى عليه شئ 0 إذن فهو يعرف و يرصد 0 و هو الذى وضع الضمير فى الإنسان الذى يرصد أعماله ، و بالأولى الله 0 وهو أيضاً القدوس الذى لا يقبل الخطية ، و العادل الذى لا يتساوى أمامه الطيب و الخبيث إذن ما المقصود بقول المرتل : إن كنت للآثام راصداً يا رب 00
أى إن كنت ترصد الآثام لتعاقب عليها 0 0 تخرنها لتديننا بها 0
إن كنت كذلك ، فمن يثبت ؟! كلنا خطاة 0 كلنا فى الموازين إلى فوق 0 إن حاسبتنا ، فسوف يستد كل فم 0 وكما فم 0 و كما يقول المرتل للرب فى مزمور آخر : " لا تدخل فى المحاكمة مع عبدك 0 فإنه لا يتزكى قدامك أى حى " ( مز 143 : 2 ) 0
أنت لا ترصد الخطايا ، بل تمحوها بالمغفرة 0
إنه كالطيب يرصد الأمراض لكى يعالجها ، وليس لكى يوبخ المريض عليها 0 كل علل المريض واضحة أمامه ، ولكن لكى يخلصه منها 0 و هكذا انت أيضاً قلت " لم آت لأدين ، بل لأخلص " 0 إن ابن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس ، بل ليخلص " ( لو 9 : 56) 0 و جاء يطلب و يخلص ما قد هلك " ( لو 19 : 10 ) 0 وكيف ذلك ؟ 00 بالمغفرة 0
طول أناته ، تقود إلى التوبة ( رو 2 : 4 ) 0 وبالتوبة المغفرة 0 و يتغنى المرتل بهذه الغفرة ، فيقول " طوبى للذى غفر إثمه و سترت خطيته 0 طوبى لإنسان لا يحسب له الرب الرب خطية " ( مز 32 : 1 ، 2)0 هذه الخطايا التى لا تحسب ، يقول عنها الرب فى سفر ارميا النبى " لأنى أصفح عن إثمهم ، و لا أذكر خطيتهم بعد " ( أر 31 : 34 ) 0
لا يحسب لنا خطايانا ، فى التوبة من جهتنا 0 و أيضاً فى المصالحة التى تمت على الصليب ، كما قال القديس بولس الرسول " إن الله كان فى المسيح مصالحاً العالم لنفسه ، غير حاسب لهم خطاياهم " ( 2كو 5 : 16 ) 0
الله إذن – فى المصالحة – لا يرصد الخطايا ، بل يمحوها 0
" إذ محا الصك الذى علينا 00 مسمراً اياه على الصليب ( كو 2 : 14 ) 0 و قال الرب " أنا أنا هو الماحى ذنوبك 0 و خطاياك لا أذكرها " ( أش 43 : 25 ) 0 و أيضاً " قد محوت كغيم ذنوبك ، و كسحابة خطاياك " ( أش 44 : 22 ) 0 كل ذلك بشرط التوبة 0
أنا من أجل اسمك ، صبرت إلى أن يأتى خلاصك 0 صبرت إلى أن تأتينى معونتك ، وإلى أن أنال مغفرتك
فما هو اسمك الذى صبرت له ؟
اسمك كمخلص 0 وعنك قال الملاك المبشر بميلادك : " و تدعو اسمه يسوع ، لأنه يخلص شعبه من خطاياهم " ( مت 1 : 21 ) 0 فكلمة يسوع معناها مخلص 0
وأيضاً صبرت من أجل اسمك ( عمانوئيل ) " الذى تفسيره الله معنا " ( مت 1 : 23 ) 0 فمادمت معنا ،إذن ساصير لعملك فينا ، و عملك من أجلنا 0
من أجل اسمك الحنون الشفوق الغفور ، الذى " لم يصنع معنا حسب خطايانا ، و لم يجازنا حسب آثامنا " ( مز 103 : 10 ) 00 الذى قيل عنه " الرب رحيم ورؤوف ، طويل الروح ، كثير الرحمة 0 لا يحاكم إلىالأبد ، و يحقد إلى الدهر " ( مز 103 : 8 ، 9 ) 0
من أجل اسمك هذا ، صبرت و أنا مملوء بالرجاء 0
صبرت و أنا واثق أنك ستعمل فى للتوبة و للمغفرة 0 و ستعمل فى لكى أنفذ وصاياك وناموسك 0
انتظرت نفسى لناموسك
انتظرت حتى يمكننى أن أنفذ ناموسك فى 0 صبرت حتى تأتينى المعونة التى أنفذ بها كل كلامك 0 أو فى ترجمة اخرى " أكثر من المراقبين الصبح " 0 أى الذين فى الظلمة و ينتظرون الصبح متى يجئ فهم يراقبون مجيئه 0
و هنا أراقب مجئ صبحك متى يأتى ليبدد ظلمتى 0
X X X
ثم يتحول من صلاته لأجل نفسه إلى الصلاة لأجل الشعب كله فيقول : أكثر من المراقبين الصبح فلينتظر اسرائيل الرب 0
و كلمة ( إسرائيل ) هنا لها معنى رمزى 0 أى الشعب كله فلينتظر الرب من الليل حتى الصبح 0
X X X
" لأن الرحمة من عند الرب ، و عظيم هو خلاصه ( فداؤه ) 0 وهو يفدى إسرائيل من كل آثامه " 0
هنا الذى يصرخ من الأعماق ، الذى ينتظر من الظلمة مراقباً الصبح متى يجئ ، إنما ينتظر خلاص الرب الذى سيأتى بالفداء 0 وهو خلاص ينتظره كل الشعب 0 و عنه عبر سمعان الشيخ بقوله " الآن يا رب تطلق عبدك بسلام ، لأن عينى قد ابصرتا خلاصك الذى أعددته قدام وجه جميع الشعوب " ( لو 2 : 29 / 30 ) 0 و المصلى واثق الرب سيفدى الشعب من كل آثامه 0