عن خدمة المسيحي
دكتور جميل نجيب سليمان
في رسالتيه إلى أهل رومية والأولى إلى أهل كورنثوس يشير معلِّمنا بولس إلى تعدُّد المواهب في الكنيسة كما يتعدَّد أعضاء الجسد الواحد (رو 12: 4-8، 1كو 12: 12-27)، ويقول إن:
«أنواع مواهب موجودة، ولكن الروح واحد. وأنواع خِدَم موجودة، ولكن الرب واحد. وأنواع أعمال موجودة، ولكن الله واحد، الذي يعمل الكل في الكل. ولكنه لكل واحد يُعطَى إظهار الروح للمنفعة» (1كو 12: 4-7).
فالله هو العامل بروحه في كل خدمة وعمل وموهبة مهما تعدَّدت.
وفي الكنيسة الأرثوذكسية يُمثـِّل الإكليروس وسائر الشعب (لاؤس) جناحَيْ الكنيسة، ولكل منهما دوره في العمل الكنسي.
فالشعب هو الذي يختار الإكليروس ويُزكِّيهم للخدمة. والكل يشترك في الخدمة الليتورجية، فلا يُقام قدَّاس بدون الكاهن (ابرسفيتيروس) والشماس (دياكون) والشعب.
والصلوات يشترك فيها الكل. والكاهن يُصلِّي طالباً الحِلَّ من الله له ولكل الشعب (”حاللنا وحالل كل شعبك“ - صلاة التحليل)، كما أنه يُصلِّي بصيغة الجمع (”ففيما نحن أيضاً نصنع ذِكْر آلامه المقدسة، وقيامته مــن بين الأموات، وصعوده إلى السموات، وجلوسه عـن يمينك أيها الآب، وظهوره الثاني الآتي من السموات المخوف المملوء مجداً؛ نُقرِّب لك قرابينك من الذي لك، على كل حالٍ، ومن أجل كل حالٍ، وفي كل حالٍ“ - القداس الباسيلي). فهو يقود الصلاة ويخدم الأسرار كمتقدِّم أمام الشعب، وهو مسئول عن التعليم وحماية الإيمان. ولكن الشعب أيضاً مسئول عن حماية الإيمان.
وفي القرن الرابع تحمَّل الشعب دوره في الدفاع عن إيمان الكنيسة المُسلَّم من الرسل مُسانداً آباءه في حربهم المقدسة ضد الهراطقة.
كما أن كثيرين مــن غير الإكليروس أثـَّروا في حياة الكنيسة وأَثـْروها. فالقديس بولا أول السوَّاح والقديس أنطونيوس أب جميع الرهبان في كل العالم لم يكونا من أصحاب الرتب الكنسية. وكثيرٌ من الشهداء - الذين تُبنى الكنائس على أسمائهم، وتُطلب شفاعتهم، وتُجرى بواسطتهم المعجزات حتى اليوم - لم يكونوا من الإكليروس مثل القديسين: مار جرجس ومار مينا ومرقوريوس، والقديستين: دميانة ورفقة. كما أن كثيراً من عامة الشعب يوهبون نِعَم الشفاء وإخراج الشياطين.
وفي كل زمان، فالمجالات التي يمكن للمسيحي أن يخدم من خلالها الله والقريب متعددة، ونشير فيما يلي إلى أهمها:
1 - البيت:
في دوائر الاهتمام يأتي البيت والعائلة في المقام الأول من ناحية خدمة الآخر. والرب في إرساليته لتلاميذه بعد قيامته وجَّههم أن يبدأوا بشهادتهم له في أورشليم واليهودية (أع 1: ، وهي ما يُقابل على المستوى الفردي المؤمن وبيته. ومعلِّمنا بولس الرسول يُشدِّد على خدمة المسيحي لبيته: «وإن كان أحد لا يعتني بخاصته، ولا سيما أهل بيته، فقد أنكر الإيمان، وهو شرٌّ من غير المؤمن» (1تي 5: ، لأن نجاحه في خدمة بيته يُساند خدمته خارج البيت. وفي الشروط المطلوبة في الأسقف (إذا كان متزوجاً) أن يكون قد ”دبَّر بيته حسناً“ (1تي 3: 4)، فهذه شهادة أنه مؤهَّل لخدمة الكنيسة المتسعة. وبنفس القدر فإن عدم الاهتمام بالأهل - بما يؤدِّي إلى تباعدهم عن الإيمان - هو عثرة للخدمة ومؤشر سلبي عن جدوى خدمة المسيحي في العالم. والأب (أو الأُم) هو رأس العائلة الذي يقود مسيرة الخلاص في البيت، وهو النموذج والمثل في المشاركة في أعباء الأسرة بكل اتضاع. وقد يكون خادم الخلاص في الأسرة هو الابن (أو الابنة) الذي يُبشـِّر بحياته الإيمانية والتزامه الإنجيلي باقي أفراد الأسرة حتى الأكبر سناً.
2 - العمل والسكن والدراسة:
مجالات العمل والسكن والدراسة ساحات مفتوحة لخدمة الآخرين والتأثير فيهم مسيحياً بالمعاملة الطيبة للمتعاملين وعدم التعالي عليهم([1])، والتصادق مع الزملاء ومساعدتهم ومشاركتهم أفراحهم وأتراحهم، ومحبة الجيران وخدمتهم والوقوف إلى جانبهم في الشدائد، وإظهار المودة والتعاون مع زملاء الدراسة، خاصة غير المؤمنين من كل هذه الفئات، فهذه بشارة متاحة للجميع ومضمونة التأثير - على الأقل في البعض - وفي هذا المجال، فإن الطبيب والمعلِّم والإخصائي الاجتماعي هم ثلاثة نماذج قادرة أن تصنع الكثير إذا كانوا يحيون في الإيمان. ولا ننسى أن المسيح خدم الخلاص من خلال التعليم والشفاء والعمل الاجتماعي (خدمة الفقراء، التحنُّن على الخطاة وإفهامهم، المشاركة في الأفراح والأحزان) قبل أن يُقدِّم نفسه ذبيحة عن كل الخطاة.
3 - القدوة:
تقديم القدوة هو بشارة بغير كلام، حتى رآها البعض إنجيلاً خامساً إلى جانب الأناجيل الأربعة. والقـدوة تـدعم الخدمة وتثبت صـدق دعوة الخادم، ومـن هنا كان تشديد معلِّمنا بـولس على تلاميذه أن يكونوا قدوة في السلوك المسيحي إذا أرادوا لخدمتهم أن تثمر بغِنَى، فكتب لتيموثاوس أن: «كُــن قدوة للمؤمنين في الكلام، في التصرُّف، في المحبة، في الـروح، في الإيمان، في الطهارة» (1تي 4: 12)، ولتيطس: «مُقدِّماً نفسك في كل شيء قدوة للأعمال الحسنة.» (تي 2: 7)
فسلوكنا المسيحي يؤثـِّر ويُغيِّر إلى الأفضل - دون أن ندري - فيمَن حولنا، وهذه مسئولية علينا أن نعيها، لكي نتحفَّظ من مُشاكلة أبناء هذا الدهر، فهذا تخلٍّ عن دورنا كنور للعالم وملح للأرض.
4 - خدمة المحتاجين:
هذه خدمة محبوبة ومؤثـِّرة ومتصلة اتصالاً وثيقاً بالإنجيل، ذلك أن المسيح اعتبر نفسه ضمن إخوته: الجوعى والعطاش (المحتاجين إلى الطعام والشراب)، والعرايا (المحتاجين إلى الكساء والدفء)، والغرباء (المحتاجين إلى المأوى والمساعدة)، والمرضى - خاصة ذوي العلل المستعصية - (المحتاجين إلى العلاج والزيارة والمواساة)، والسجناء (المحتاجين إلى الحرية والتعزية)؛ ويؤكِّد أن خدمتهم هي خدمة مباشرة له هو، وأن هذه الخدمة - وإن تمَّت في الخفاء - ستُعلن لأصحابها في اليوم الأخير (مت 25: 31-40).
ومعلِّمنا بولس يدعو الفقراء ”القديسين“ (رو 12: 13؛ 15: 25، 1كو 16: 1و15، 2كو 8: 4؛ 9: 1و12، عب 6: 10)، فخدمتهم عنصر في حياة القداسة. وحتى النُّسَّاك المتجردون كانوا يصنعون السلال ويبيعونها كي يُنفقوا على الفقراء إخوة المسيح. ويُطالبنا الكتاب أن نُعطي بسخاء (رو 12: ، وبسرور (2كو 9: 7)، وأن يكون عطاؤنا في الخفاء (مت 6: 1-4).
ويمكن أن يُضاف إلى قائمة ”المحتاجين“ الأيتام المحرومون من الأمومة والأُبوة، والمحاصرون بالهموم، والحزانى، والمسـنُّون الذين يعيشون في بيوت خاصة بعيداً عن ذويهم، وذوو الاحتياجات الخاصة، والمحرومون من بعض الحواس كالمكفوفين والصُّم والبُكم، والمرضى النفسيون، وبعض هذه الفئات تخدمها الكنائس. والمطلوب أن يتقدَّم محبو المسيح وإخوته إلى الكنيسة ومؤسساتها للإسهام في هذه الخدمة النبيلة لحساب الحياة الأبدية للخادم والمخدوم.
5 - العمل الفردي:
الخدمة هنا موجَّهة لفرد بعينه مِمَّن جاءوا في الحالات السابقة سواء أكان جاراً أم صديقاً أم زميلاً أم عابر سبيل أم غيرهم. ونحن في هذا نتمثـَّل بالرب الذي تعامل كثيراً مع الأفراد: فقد اختار تلاميذه واحداً واحداً، وكانت له مع نيقوديموس (يو 3)، والمرأة السامرية (يو 4)، ومريض بيت حسدا (يو 5: 1-14)، والمرأة التي أُمسكت في زنا (يو 8: 1-11)، وقائد المئة (مت 8: 5-10)، والمرأة الكنعانيـة (مت 15: 21-28، مر 7: 24-30)، والمرأة الخاطئـة (لو 7: 36-50)، وزكَّا (لو 19: 1-10)، وغيرهم؛ حوارات ومعاملات أدَّت إلى خلاصهم.
فالعمل الفردي ممكن لكل مؤمن ويتنوَّع حسب إمكانياته الروحية والشخصية. وعلى كل منا أن يطلب من الرب مع بداية كل يوم قائلاً: «هأنذا أرسلني» (إش 6: لأداء مهمة اليوم.
6 - خدمة التعليم والوعظ والتبشير بالمسيح:
هذه خدمة أصحاب المواهب الخاصة المتتلمذين للإنجيل والذين تدعوهم الكنيسة للوعظ والتعليم في اجتماعاتها، وهي خدمة الأعداد الكبيرة أو القليلة، حيث تُلقى البذار، والروح يُهيئ القلوب كي تُثمر فيها الكلمة. وقد عرفت كنيستنا خلال القرن الماضي عديداً من المعلِّمين والوعَّاظ من غير الإكليروس، وبعضهم لم يكن حتى شماساً. وفي أيام بولس الرسول، فإن أكيلا وبريسكلا امرأته الخيَّامَيْن هما اللذان شرحا لأبلُّوس ”الفصيح المقتدر في الكتب“ طريق الرب بأكثر تدقيق (أع 18: 24-26). وفي أيامنا هذه، فإن كثيراً من المبشِّرين بالمسيح هم مؤمنون وَهَبَتْهُم نعمة الله غيرة قوية وحياة منيرة ومعرفة بكلمة الله ومحبة للمتغرِّبين وهدايتهم إلى طريق الخلاص.
بـركـات خدمـة الله:
لا شـكَّ في عِظَـم المكافـأة التي ينالهــا المكرَّسـون الأمناء مــن بطاركـة وأساقفـة وكهنـة وشمامسة ورهبان وغيرهم، خاصة الشهداء منهم. ولكن العطاء الإلهي الغني سيغمر أيضاً المؤمنين العاديين من شعب الله الذين أحبوه وخدموه بكل طريقة.
ولو أدرك المؤمن فيض البركات التي يُنعم بها الله عليه إزاء خدمته مهما تضاءلت لما تردَّد أو تخلَّف عن خدمة الرب.
فها هو الرب يؤكِّد أنه حتى أصغر الخدمات، التي سقطت من الذاكرة لبساطتها أو بمضيّ الأيام، لن تُنسى قدام الله وأجرها محفوظ بحسب عدل الله: «ومَن سقى أحد هؤلاء الصغار كأس ماء بارد فقط باسم تلميذ، فالحق أقول لكم إنه لا يُضيـِعُ أجره.» (مت 10: 42، مر 9: 41)
وبالنسبة للفقراء بالذات فقد وضعهم الرب في أول قائمة إخوته. وهناك تأكيد أن خدمتهم لن تُنسَى: «لأن الله ليس بظالم حتى ينسى عملكم وتعب المحبة التي أظهرتموها نحو اسمه، إذ قد خدمتم القديسين وتخدمونهم.» (عب 6: 10)
والـرب طـوَّب الـرحماء لأنهم يُـرحمــون (مـت 5: 7)، ومكتوب: «المعطي المسرور يُحبُّه الله» (2كو 9: 7)، ويعطيه عندما يحتاج بأكثر سخاء: «أعطوا تُعطَوْا كيلاً جيداً مُلبَّداً مهزوزاً فائضاً يُعطُون في أحضانكم. لأنه بنفس الكيل الذي به تكيلون يُكال لكم.» (لو 6: 38)
بـل إن الـرب جعل خدمـة الجائـع والعطشان والعريــان والغريب والمــريض والسجين شهادة على صـدق الإيمان بالمسيح ومحبته، وتصريحاً لخدَّام المسيح بالدخول إلى الملكوت المعدِّ لهم منذ تأسيس العالم (مت 25: 34). كما جعل إهمال هذه الخدمة، بسبب الانحصار في الذات، إنكاراً للإيمان، والنتيجة هي السقوط من رحمة الله «فيمضي هؤلاء إلى عذاب أبدي.» (مت 25: 46)
ولأن خدمة الآخر تنطلق من إنكار الذات، فهي تُسهم بالتالي في تراجع الذات وتواريها. فالانشغال بتخفيف آلام الآخرين وسد احتياجاتهم ومشاركتهم همومهم
منقول
دكتور جميل نجيب سليمان
في رسالتيه إلى أهل رومية والأولى إلى أهل كورنثوس يشير معلِّمنا بولس إلى تعدُّد المواهب في الكنيسة كما يتعدَّد أعضاء الجسد الواحد (رو 12: 4-8، 1كو 12: 12-27)، ويقول إن:
«أنواع مواهب موجودة، ولكن الروح واحد. وأنواع خِدَم موجودة، ولكن الرب واحد. وأنواع أعمال موجودة، ولكن الله واحد، الذي يعمل الكل في الكل. ولكنه لكل واحد يُعطَى إظهار الروح للمنفعة» (1كو 12: 4-7).
فالله هو العامل بروحه في كل خدمة وعمل وموهبة مهما تعدَّدت.
وفي الكنيسة الأرثوذكسية يُمثـِّل الإكليروس وسائر الشعب (لاؤس) جناحَيْ الكنيسة، ولكل منهما دوره في العمل الكنسي.
فالشعب هو الذي يختار الإكليروس ويُزكِّيهم للخدمة. والكل يشترك في الخدمة الليتورجية، فلا يُقام قدَّاس بدون الكاهن (ابرسفيتيروس) والشماس (دياكون) والشعب.
والصلوات يشترك فيها الكل. والكاهن يُصلِّي طالباً الحِلَّ من الله له ولكل الشعب (”حاللنا وحالل كل شعبك“ - صلاة التحليل)، كما أنه يُصلِّي بصيغة الجمع (”ففيما نحن أيضاً نصنع ذِكْر آلامه المقدسة، وقيامته مــن بين الأموات، وصعوده إلى السموات، وجلوسه عـن يمينك أيها الآب، وظهوره الثاني الآتي من السموات المخوف المملوء مجداً؛ نُقرِّب لك قرابينك من الذي لك، على كل حالٍ، ومن أجل كل حالٍ، وفي كل حالٍ“ - القداس الباسيلي). فهو يقود الصلاة ويخدم الأسرار كمتقدِّم أمام الشعب، وهو مسئول عن التعليم وحماية الإيمان. ولكن الشعب أيضاً مسئول عن حماية الإيمان.
وفي القرن الرابع تحمَّل الشعب دوره في الدفاع عن إيمان الكنيسة المُسلَّم من الرسل مُسانداً آباءه في حربهم المقدسة ضد الهراطقة.
كما أن كثيرين مــن غير الإكليروس أثـَّروا في حياة الكنيسة وأَثـْروها. فالقديس بولا أول السوَّاح والقديس أنطونيوس أب جميع الرهبان في كل العالم لم يكونا من أصحاب الرتب الكنسية. وكثيرٌ من الشهداء - الذين تُبنى الكنائس على أسمائهم، وتُطلب شفاعتهم، وتُجرى بواسطتهم المعجزات حتى اليوم - لم يكونوا من الإكليروس مثل القديسين: مار جرجس ومار مينا ومرقوريوس، والقديستين: دميانة ورفقة. كما أن كثيراً من عامة الشعب يوهبون نِعَم الشفاء وإخراج الشياطين.
وفي كل زمان، فالمجالات التي يمكن للمسيحي أن يخدم من خلالها الله والقريب متعددة، ونشير فيما يلي إلى أهمها:
1 - البيت:
في دوائر الاهتمام يأتي البيت والعائلة في المقام الأول من ناحية خدمة الآخر. والرب في إرساليته لتلاميذه بعد قيامته وجَّههم أن يبدأوا بشهادتهم له في أورشليم واليهودية (أع 1: ، وهي ما يُقابل على المستوى الفردي المؤمن وبيته. ومعلِّمنا بولس الرسول يُشدِّد على خدمة المسيحي لبيته: «وإن كان أحد لا يعتني بخاصته، ولا سيما أهل بيته، فقد أنكر الإيمان، وهو شرٌّ من غير المؤمن» (1تي 5: ، لأن نجاحه في خدمة بيته يُساند خدمته خارج البيت. وفي الشروط المطلوبة في الأسقف (إذا كان متزوجاً) أن يكون قد ”دبَّر بيته حسناً“ (1تي 3: 4)، فهذه شهادة أنه مؤهَّل لخدمة الكنيسة المتسعة. وبنفس القدر فإن عدم الاهتمام بالأهل - بما يؤدِّي إلى تباعدهم عن الإيمان - هو عثرة للخدمة ومؤشر سلبي عن جدوى خدمة المسيحي في العالم. والأب (أو الأُم) هو رأس العائلة الذي يقود مسيرة الخلاص في البيت، وهو النموذج والمثل في المشاركة في أعباء الأسرة بكل اتضاع. وقد يكون خادم الخلاص في الأسرة هو الابن (أو الابنة) الذي يُبشـِّر بحياته الإيمانية والتزامه الإنجيلي باقي أفراد الأسرة حتى الأكبر سناً.
2 - العمل والسكن والدراسة:
مجالات العمل والسكن والدراسة ساحات مفتوحة لخدمة الآخرين والتأثير فيهم مسيحياً بالمعاملة الطيبة للمتعاملين وعدم التعالي عليهم([1])، والتصادق مع الزملاء ومساعدتهم ومشاركتهم أفراحهم وأتراحهم، ومحبة الجيران وخدمتهم والوقوف إلى جانبهم في الشدائد، وإظهار المودة والتعاون مع زملاء الدراسة، خاصة غير المؤمنين من كل هذه الفئات، فهذه بشارة متاحة للجميع ومضمونة التأثير - على الأقل في البعض - وفي هذا المجال، فإن الطبيب والمعلِّم والإخصائي الاجتماعي هم ثلاثة نماذج قادرة أن تصنع الكثير إذا كانوا يحيون في الإيمان. ولا ننسى أن المسيح خدم الخلاص من خلال التعليم والشفاء والعمل الاجتماعي (خدمة الفقراء، التحنُّن على الخطاة وإفهامهم، المشاركة في الأفراح والأحزان) قبل أن يُقدِّم نفسه ذبيحة عن كل الخطاة.
3 - القدوة:
تقديم القدوة هو بشارة بغير كلام، حتى رآها البعض إنجيلاً خامساً إلى جانب الأناجيل الأربعة. والقـدوة تـدعم الخدمة وتثبت صـدق دعوة الخادم، ومـن هنا كان تشديد معلِّمنا بـولس على تلاميذه أن يكونوا قدوة في السلوك المسيحي إذا أرادوا لخدمتهم أن تثمر بغِنَى، فكتب لتيموثاوس أن: «كُــن قدوة للمؤمنين في الكلام، في التصرُّف، في المحبة، في الـروح، في الإيمان، في الطهارة» (1تي 4: 12)، ولتيطس: «مُقدِّماً نفسك في كل شيء قدوة للأعمال الحسنة.» (تي 2: 7)
فسلوكنا المسيحي يؤثـِّر ويُغيِّر إلى الأفضل - دون أن ندري - فيمَن حولنا، وهذه مسئولية علينا أن نعيها، لكي نتحفَّظ من مُشاكلة أبناء هذا الدهر، فهذا تخلٍّ عن دورنا كنور للعالم وملح للأرض.
4 - خدمة المحتاجين:
هذه خدمة محبوبة ومؤثـِّرة ومتصلة اتصالاً وثيقاً بالإنجيل، ذلك أن المسيح اعتبر نفسه ضمن إخوته: الجوعى والعطاش (المحتاجين إلى الطعام والشراب)، والعرايا (المحتاجين إلى الكساء والدفء)، والغرباء (المحتاجين إلى المأوى والمساعدة)، والمرضى - خاصة ذوي العلل المستعصية - (المحتاجين إلى العلاج والزيارة والمواساة)، والسجناء (المحتاجين إلى الحرية والتعزية)؛ ويؤكِّد أن خدمتهم هي خدمة مباشرة له هو، وأن هذه الخدمة - وإن تمَّت في الخفاء - ستُعلن لأصحابها في اليوم الأخير (مت 25: 31-40).
ومعلِّمنا بولس يدعو الفقراء ”القديسين“ (رو 12: 13؛ 15: 25، 1كو 16: 1و15، 2كو 8: 4؛ 9: 1و12، عب 6: 10)، فخدمتهم عنصر في حياة القداسة. وحتى النُّسَّاك المتجردون كانوا يصنعون السلال ويبيعونها كي يُنفقوا على الفقراء إخوة المسيح. ويُطالبنا الكتاب أن نُعطي بسخاء (رو 12: ، وبسرور (2كو 9: 7)، وأن يكون عطاؤنا في الخفاء (مت 6: 1-4).
ويمكن أن يُضاف إلى قائمة ”المحتاجين“ الأيتام المحرومون من الأمومة والأُبوة، والمحاصرون بالهموم، والحزانى، والمسـنُّون الذين يعيشون في بيوت خاصة بعيداً عن ذويهم، وذوو الاحتياجات الخاصة، والمحرومون من بعض الحواس كالمكفوفين والصُّم والبُكم، والمرضى النفسيون، وبعض هذه الفئات تخدمها الكنائس. والمطلوب أن يتقدَّم محبو المسيح وإخوته إلى الكنيسة ومؤسساتها للإسهام في هذه الخدمة النبيلة لحساب الحياة الأبدية للخادم والمخدوم.
5 - العمل الفردي:
الخدمة هنا موجَّهة لفرد بعينه مِمَّن جاءوا في الحالات السابقة سواء أكان جاراً أم صديقاً أم زميلاً أم عابر سبيل أم غيرهم. ونحن في هذا نتمثـَّل بالرب الذي تعامل كثيراً مع الأفراد: فقد اختار تلاميذه واحداً واحداً، وكانت له مع نيقوديموس (يو 3)، والمرأة السامرية (يو 4)، ومريض بيت حسدا (يو 5: 1-14)، والمرأة التي أُمسكت في زنا (يو 8: 1-11)، وقائد المئة (مت 8: 5-10)، والمرأة الكنعانيـة (مت 15: 21-28، مر 7: 24-30)، والمرأة الخاطئـة (لو 7: 36-50)، وزكَّا (لو 19: 1-10)، وغيرهم؛ حوارات ومعاملات أدَّت إلى خلاصهم.
فالعمل الفردي ممكن لكل مؤمن ويتنوَّع حسب إمكانياته الروحية والشخصية. وعلى كل منا أن يطلب من الرب مع بداية كل يوم قائلاً: «هأنذا أرسلني» (إش 6: لأداء مهمة اليوم.
6 - خدمة التعليم والوعظ والتبشير بالمسيح:
هذه خدمة أصحاب المواهب الخاصة المتتلمذين للإنجيل والذين تدعوهم الكنيسة للوعظ والتعليم في اجتماعاتها، وهي خدمة الأعداد الكبيرة أو القليلة، حيث تُلقى البذار، والروح يُهيئ القلوب كي تُثمر فيها الكلمة. وقد عرفت كنيستنا خلال القرن الماضي عديداً من المعلِّمين والوعَّاظ من غير الإكليروس، وبعضهم لم يكن حتى شماساً. وفي أيام بولس الرسول، فإن أكيلا وبريسكلا امرأته الخيَّامَيْن هما اللذان شرحا لأبلُّوس ”الفصيح المقتدر في الكتب“ طريق الرب بأكثر تدقيق (أع 18: 24-26). وفي أيامنا هذه، فإن كثيراً من المبشِّرين بالمسيح هم مؤمنون وَهَبَتْهُم نعمة الله غيرة قوية وحياة منيرة ومعرفة بكلمة الله ومحبة للمتغرِّبين وهدايتهم إلى طريق الخلاص.
بـركـات خدمـة الله:
لا شـكَّ في عِظَـم المكافـأة التي ينالهــا المكرَّسـون الأمناء مــن بطاركـة وأساقفـة وكهنـة وشمامسة ورهبان وغيرهم، خاصة الشهداء منهم. ولكن العطاء الإلهي الغني سيغمر أيضاً المؤمنين العاديين من شعب الله الذين أحبوه وخدموه بكل طريقة.
ولو أدرك المؤمن فيض البركات التي يُنعم بها الله عليه إزاء خدمته مهما تضاءلت لما تردَّد أو تخلَّف عن خدمة الرب.
فها هو الرب يؤكِّد أنه حتى أصغر الخدمات، التي سقطت من الذاكرة لبساطتها أو بمضيّ الأيام، لن تُنسى قدام الله وأجرها محفوظ بحسب عدل الله: «ومَن سقى أحد هؤلاء الصغار كأس ماء بارد فقط باسم تلميذ، فالحق أقول لكم إنه لا يُضيـِعُ أجره.» (مت 10: 42، مر 9: 41)
وبالنسبة للفقراء بالذات فقد وضعهم الرب في أول قائمة إخوته. وهناك تأكيد أن خدمتهم لن تُنسَى: «لأن الله ليس بظالم حتى ينسى عملكم وتعب المحبة التي أظهرتموها نحو اسمه، إذ قد خدمتم القديسين وتخدمونهم.» (عب 6: 10)
والـرب طـوَّب الـرحماء لأنهم يُـرحمــون (مـت 5: 7)، ومكتوب: «المعطي المسرور يُحبُّه الله» (2كو 9: 7)، ويعطيه عندما يحتاج بأكثر سخاء: «أعطوا تُعطَوْا كيلاً جيداً مُلبَّداً مهزوزاً فائضاً يُعطُون في أحضانكم. لأنه بنفس الكيل الذي به تكيلون يُكال لكم.» (لو 6: 38)
بـل إن الـرب جعل خدمـة الجائـع والعطشان والعريــان والغريب والمــريض والسجين شهادة على صـدق الإيمان بالمسيح ومحبته، وتصريحاً لخدَّام المسيح بالدخول إلى الملكوت المعدِّ لهم منذ تأسيس العالم (مت 25: 34). كما جعل إهمال هذه الخدمة، بسبب الانحصار في الذات، إنكاراً للإيمان، والنتيجة هي السقوط من رحمة الله «فيمضي هؤلاء إلى عذاب أبدي.» (مت 25: 46)
ولأن خدمة الآخر تنطلق من إنكار الذات، فهي تُسهم بالتالي في تراجع الذات وتواريها. فالانشغال بتخفيف آلام الآخرين وسد احتياجاتهم ومشاركتهم همومهم
منقول