فليكن فيكم هذا الفكر الذي
في المسيح يسوع أيضاً ، الذي إذ
كان في صورة الله لم يحسب خلسة
أن يكون معادلاً لله .
لكنه أخلي ذاته آخذاً صورة
عبد ، صائراً في شبة الناس . وإذ
وجد في الهيئة كإنسان وضع
نفسه وأطاع حتى الموت ، موت
الصليب " .
( فى2 : 5 ـ 8 ) .
إن السيد الرب ، إذ أخلي ذاته وأخذ شكل العبد لم يقتصر ذلك على حادثة الميلاد فحسب ، بل شمل ذلك حياته كلها التي لا تدخل تحت حصر .
ميلاد السيد المسيح المتواضع كان مجرد مظهر من مظاهر إخلاء الذات وسنحاول أن نتبع إخلاء الرب لذاته في كل ناحية ... ونحاول أن ندرك الأسباب التي من أجلها أخلي ذاته ... ثم نأخذ لأنفسنا عظة عملية ، محاولين أن نطبق عنصر الإخلاء في حياتنا ...
وعلينا أن نفهم بالدقة : ما هو معني إخلاء الذات ...
إنه لم يخلها طبعاً من جوهرة ولا من طبيعته ولا من لاهوته الذي لم يفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين . بل أخلي ذاته من الأمجاد المحيطة به ومن عظمة السماء . وسنشر هذا وغيره بالتفصيل في الصفحات المقبلة ...
جميل بنا أن نلاحظ أن هذا الإخلاء لم يكن إقلالاً من شأن الرب ، وإنما هو عظمة جديدة في مفهومها . كان الناس يفهمون العظة في مظاهر خارجية . أما عظمة من يخلي ذاته ويأخذ شكل العبد ، فلم يكن أحد يتصورها . هذه قدمها الرب لنا ...
عجيب هو الرب في إتضاعه ، عندما أخلي ذاته في ميلاده .
نزل إلى العالم هادئا بدون ضجة ، ودخله في خفاء لم يشعر به أحد ... لم يحدد من قبل موعد مجيئه .
وهكذا ولد في يوم مجهول ، لم تستعد له الأرض ولا السماء ، ولم يستقلبه فيه أحد . يوم ميلاده كان نكره بالنسبة إلى العالم ، مع أنه من أعظم الأيام إذ بدأ فيه عمل الخلاص الذي تم على الصليب .
ولو نزل الرب إلى العالم في صفوف ملائكته ، على سحابة عظيمة ، أو في مركبة نورانية يحيط به الشاروبيم والسارافيم ... وقد إرتجت له السموات وكل قوي الطبيعة ... أو لو أن السماء إحتفلت بميلاده ، وليس بنجم بسيط يظهر للمجوس ، بل إهتزت له كل نجوم السماء وكواكبها ... لو حدث ذلك ، لقلنا إنه أمر يليق بالرب ومجده ... !
لو أن شخصاً كان مسافراً إلى مكان ، لأرسل الرسائل قبلها ، فيستقبله الأحباء والأصدقاء والأقارب والمعارف والمريدون ، وربما يستاء إذا قصر أحد في إنتظاره أو في إستقباله ....
أما السيد المسيح فدخل إلى العالم في صمت ، بعيداً عن كل مظاهر الترحيب ، في ضجيج ، وبطريقة بسيطة هادئة ... دخل بنكران عجيب للذات ، أو في إخلاء عجيب للذات وكل الذين إستقبلوه جماعة من الرعاة المساكين ، ثم المجوس ...
هناك أشخاص يحبون الضجيج وبهرجة الترحيب في دخولها وفي خروجهم ، لأن فاعلية ميلاد السيد المسيح لم تغيرهم بعد ...
لم يخل السيد المسيح ذاته في هدوء مجيئه إلى العالم فحسب ، بل في كل ظروف ميلاده . فكيف كان ذلك ؟
ولد من أم فقيرة يتيمة ، لم تكن تجد من يعولها . عهد بها الكهنة إلى يوسف ، خطبوها له لتعيش في كفنه .
وولد في قرية هي : " الصغري بين رؤساء يهوذا " ( مت2 : 6 ) .
وسكن في الناصرة التي يعجب الناس إن أمكن أن يخرج منها شئ صالح ( يو1 : 46 ) . ودعي ناصرياً .
وعاش في بيت نجار بسيط ، حتى كانوا يعيرونه قائلين : " أليس هذا هو إبن النجار " ( مت13 : 5 ) .
وعاش ثلاثين سنة مجهولاً ، كفترة تبدو ضائعة في التاريخ . حتى الرسل لم يعتنوا أن يكتبوا عنها شيئاً تقريباً ... عاش فيها دون أن يلتفت إليه أحد ، مخفياً لا يعرف عنه أحد شيئاً ، كأي شخص عادي ... بينما تلك السنوات الثلاثون هي فترة الشباب والقوة التي يهتم فيها كل إنسان بذاته ، ويود فيها كل شاب أن يظهر وأن يعمل عملاً ...
أخلي الرب ذاته فعاش في التطورات الطبيعية كسائر البشر .
قضي فترة كرضيع وكطفل . ولم يستح من ضعف الطفولة ... بما فيها من إحتياج إلى معونة آخرين ، وهو معين الكل !
إحتياج إلى رعاية أم ، وهو راعي الرعاة ! إحتياج إلى إمراة من صنع يديه ، تحمله على يديها ، وتهتم به ، وهو المهتم بكل أحد . وتغذيه ، وتعطيه ليأكل ويشرب !
ومن العجيب في طفولته ، أنه أخلي ذاته من استخدام قوته . فهرب من امام هيرودس ، بينما روح هيردوس في يده ! هرب من هيرودس وهو الذي خلق هيرودس ، وأبقاه حتى ذلك اليوم . عجيب هذا الأمر ..عجيب أن نري القوي القادر على كل شئ يهرب مثل سائر الذين يهربون من الضيق ! يهرب من القتل وهو الذي يملك الحياة والموت ... وجاء إلى مصر وعاش فيها سنوات . ولم يرجع إلا بعد أن هذا الجو ، بينما كان يستطيع أن يفلت من الرجل بطريقة معجزية أو يقضي عليه ...
أخلي ذاته ، فاحتمل ضعف البشرية وهو المنزه عن كل ضعف . وسمح لنفسه أن يجوع ويعطش ويتعب وينام ، كسائر البشر ...
عجيب أن يقال عن الرب أنه في آخر الأربعين يوماً : " جاع أخيراً " ( مت4 : 2 ) . وعجيب أن هذا الينبوع الذي روي الكل يقول للسامرية : " أعطيني لأشرب " ( يو4 : 7 ) ، ويقول على الصليب : " أنا عطشان " ( يو19 : 28 ) . وعجب أن يقال عنه إنه تعب وجلس عند البشر ( يو4 : 6 ) وإنه نام في السفينة ( لو8 : 23 ) .
أخلى الرب ذاته كل هذا الإخلاء ، ليخزي الذين يفتخرون ويتكبرون . وكأنه يقول لكل هؤلاء : إنني لم أولد في قصر ملك ، ولا على سرير من حرير ، وإنما في مزود للبهائم . ولكني سأجعل هذا المزود أعظم من عروش الأباطرة والملوك ... سياتيه الناس من مشارق الشمس إلى مغاريها ليتباركوا منه .
ليس المكان هو الذي يمجد الإنسان ، ولكن الإنسان هو الذي يمجد المكان . والعظمة الحقيقية إنما تنبع من الداخل .
فليحل الرب في أي مكان ، ولو كان مكاناً للبهائم ، وليولد في أية قرية ولو كانت هي الصغري في يهوذا . ولكنه سيرفع من شأن كل هذا ... يولد في هذه الحقارة إلى مجد . يولد من فتاة فقيرة ، ويجعلها أعظم نساء العالم ... ويولد في بيت رجل نجار بسيط ، فيحوله إلى رجل قديس مشهور في الكنيسة ...
أخلي ذاته من صفة الملك :
كان يمكن لمعلمنا الصالح أن يأتي كملك . ولو أتي كذلك ، ما كان أحد ينكر عليه أنه ملك . فهو من سبط يهوذا صاحب المملكة ، ومن نسل داود الملك .
ولكنه أخلى ذاته من الملك ، وهو ملك الملوك ( رؤ17 : 14 ) ...
لم يأت في هيئة ملك . لأن اليهود في في تفاخرون بالعظمة البشرية ، كانوا ينتظرون أن يأتي المسيا كملك عظيم ، لأنهم كانوا يظنون أن عظمة أن عظمة الملوك هي التي تخلصهم وكان قصد الرب أن يحطم هذه الفكرة أياً . فلم يخلصهم بعظمة الملوك ، بل بتواضع النجار الناصري ، الذي إستهانوا به قائلين : " أليس هذا هو النجار إبن مريم ؟! " ( مر6 : 3 ) . أتي كنجار بسيط ، ولم يأت كملك . ولما سعي إليه الملك ، رفضه وهرب منه . ولما " رأي أنهم مهتمون أن يأتوا ليختطفوه ويجعلوه ملكاً ، إنصرف إلى الجبل وحده " ( يو6 : 15 ) .
ورضي أن يحاكم أمام عبيده ، أمام بيلاطس وهيرودس ، وأمام أعضاء مجلس السنهدريم ... وكان يقول : " مملكتي ليست من هذا العالم " ( يو18 : 36 ) .
أخلي ذاته من صولجان الملك ومن الكرامة المقدمة للملوك ، مفضلاً أن يحاط بمحبة القلوب الطائعة لقلبه ، وليست الخائفة من سطوه سلطانه ...
أخلي ذاته من كرامة الرئاسة :
لم يطلب أن يكون رئيساً لتابعيه ، أو سيداً ... وإنما صديقاً لهم . وهكذا قال لتلاميذه : " لا أعود أسميكم عبيداً ... لكني سميتكم أحباء " ( يو15 : 15 ) . وخاطبهم في إحدى المرات قائلاً : " أقول لم يا أصدقائي ... " ( لو12 : 4 ) .
وأخلي ذاته لدرجة أنه إنحني وغسل أرجلهم ...
لم يعامل الناس كعبيد من صنع يديه ... بل كانت تربطه بهم رابطة الحب لا رابطه الرئاسة . إن البشر هم الذين يستهويهم حب الرئاسة والسلطان ... أما معلمنا المتواضع فكان يريد قلوب الناس لا خضوعهم ، وكان يريد محبتهم لا تذللهم ولم يقم نفسه رئيساً للناس بل صديقاً .
لذلك كان محبوباً لا مخافة . يهابه الناس عن توقير ، لا عن رعب . لم يرد أن تكون له الرهبة التي ترعب الناس ، بل الحب الذي يجذب الناس . وهكذا أمكن للأطفال أن تلتف حوله ، وأمكن ليوحنا أن يتكئ على صدره .
إن كل من يحب العظمة ، لم يتمتع بفاعلية الإيمان بعد .
قال الأنبا أنطونيوس مرة لأولاده : [ يا أولادى ، أنا لا أخاف الله ] . فأجابوه : [ هذا الكلام صعب يا أبانا ] . فقال لهم : [ ذلك لأني أحبه . والمحبة تطرح الخوف إلى خارج ] ( 1يو4 : 18 ) .
إن أهل العالم يحبون السلطة والنفوذ والسيطرة . يريدون أن يخافهم الناس ، ولو عن قهر . أما المسيح إلهنا فيقول : " من يحبني يحفظ وصاياي " . يعني أن حفظ وصاياه يكون عن حب وليس عن خوف ...
أخلي الرب ذاته فلم يستخدم قوته على صنع المعجزات إلا في الضرورة القصوى .
لم يستخدم قوته من أجل ذته ، ولا من أجل منفعة خاصة لم يستخدم لاهوته ليمنع عن نفسه الجوع أو العطش أو التعب أو الألم . رفض أن يحول الحجارة إلى خبز لسد جوعه الشخصي ، بينما بارك الخمس خبزات من أجل إشفاقه على الناس .
لم يستخدم قوته ليهبر الناس بالمعجزات ، ولا من أجل الإيمان . وعندما كانوا يطلبون منه معجزة لأجل ( الفرجة ) لم يكن يقبل . بل كان يبكتهم قائلاً : " جيل فاسق وشرير يطلب آية ولا تعطي له ... " ( مت12 : 39 ) . لم يبهر الناس بالمعجزات مثلما فعل سيمون الساحر ، ومثلما فعلت عرفاه فيلبي ، ومثلما سيحدث في لأزمنة الأخيرة من المسيح الدجال والوحش والتنين ...
رفض أن يلقي نفسه من على جناح الهيكل ، لتحمله الملائكة .
ويري الناس المنظر فينذهلون ويؤمنون معجبين بعظمته ! ... رفض ذلك أخلي ذاته من إعجاب الناس . إن معلمنا الصالح لم يحط نفسه بالمجد ، لأنه أراد أن يلتف الناس حول التواضع وليس حول المجد .
ومعجزة كحادثة التجلي التي كان يمكن أن تبهر الجماهير ، لم يشأ أن يراها كل الشعب ، ولا حتي كل تلاميذه الإثني عشر ، بل رآها ثلاثة فقط ، وأوصاهم ألا يظهروها ... كان زاهداً في كل هذه الأمور التي يبحث عنها من يريدون أن يظهروا ذواتهم ... بل أكثر من هذا أنه بعد كل معجزة تبهر البصر كان يخفي تلك المعجزة بعمل من أعمال الضعف البشري أو بكلام عن آلامه ... أو يطلب ممن حدثت معه أن يخفيها ...
وحتى من أجل الإيمان لم يشأ أن يبهر الناس بالمعجزات . أراد أن يكون إيمانهم بدافع من الحب والإقتناع وليس بسبب المعجزات . وما الدليل على هذا ؟
دليلنا أنه كان يطلب الإيمان قبل المعجزة ، وليس كنتيجة لها . وكثيراً ما كان يسال الذي يجري معه المعجزة " أتؤمن ؟ " ، أو يقول له : " ليكن لك حسب إيمانك " . وإن كان يؤمن قبلاً تحدث معه المعجزة ... ولذلك قيل عنه إنه في وطنة : " لم يصنع هناك قوات كثيرة لعدم إيمانهم " ( مت13 : 58 ) . كان الإيمان يسبق المعجزة . وكانت المعجزة نتيجة للإيمان وليست سبباً .
وكثير من معجزات السيد الرب كانت أعمال رحمة وحب وكانت لها أهداف روحية ... تتبعوا عنصر الحب والحنان في معجزات الرب يظهر لكم واضحاً وجلياً ... وهكذا نري في معجزة لإقامة العازر أنه بكي قبل أن يقيمه . إن الحب الذي كان يعتصر قلبه ، ظهر أولاً في عينيه الدامعتين ، قبل أن تظهر قوته في عبارة : " هلم خارجاً " . وكثير من معجزات الشفاء كانت تسبقها عبارة : " فتحنن يسوع " أو " أشفق " أو ما شابه ذلك ...
ولم يستخدم معجزاته في الدفاع عن نفسه ، أو في اٌلإنتقام من مضطهديه وشاتميه . أهانوه بكل أنواع الإهانة ، وأشبعوه شتماً وتعييراً . وكان يستطيع أن يجعل الأرض تفتح فاها وتبتلعهم ، أو تنزل نار من السماء وتفنيهم . ولكنه لم يفعل . كان قد أخلي ذاته من استخدام هذه القوة التي فيه .
وعاش بغير لقب وبغير وظيفة :
عاش السيد المسيح بغير لقب ، وبغير وظيفة رسيمة في المجتمع ، وبغير اختصاصات في نظر الناس ...
ماذا كانت وظيفة المسيح في نظر المجتمع اليهودي ، أو في نظر الدولة ؟! لا شئ .. كان أمامهم مجرد رجل يجول من مكان إلى آخر ، يعمل ويعلم ، دون أن يتسند إلى وضع رسمي ...
لم يكن من أصحاب الرتب الكهنوتية في نظر الناس ، لأنه لم يكن من سبط لاوى ولا من أبناء هارون الناحية ، أنه عندما شفي الرجل الأبرص ، قال له : " إذهب أر نفسك للكاهن ، وقدم القربان الذي أمر به موسى " ( مت 8 : 4 ) . يا لها من عبارة مؤثرة للغاية !! تصوروا رئيس الكهنة الأعظم ، منشئ الكهنوت ومؤسسه ، ومنع كل سلطة كهنوتيه ، يقول للأبرص : " إذهب أر نفسك للكاهن " !! ...
وماذا عنك أنت يارب ن أنت الكاهن إلى الأبد على طقس ملكي صادق ؟ لماذا ترسلني إلى كاهن ، وأنت راعي الرعاة وكاهن الكهنة ؟! ما أعجبك في إخلائك لذاتك ! تتصرف كمن لا سلطة له ، وأنت مصدر كل سلطة !!
وعاش السيد المسيح بدون أي مركز إجتماعي ، ولم تكن له أية صفة رسمية على الإطلاق . حتى في وضعه كمعلم ... لم يكن من طوائف الكتبة والفريسيين المؤتمنين على التعليم في ذلك الحين ، ولا من جماعة الكهنة الذين من أفواهم تطلب الشريعة ( أر18 : 18 ) ، ولا من الشيوخ ولا من البارزين في المجتمع ...
وعلى الرغم من كل ذلك ، ملأ الدنيا تعليماً ، وكانوا يلقبونه بالمعلم ، والمعلم الصالح ، ودعي معلماً حتى من أصحاب المكانة العلمية كالكتبة والفريسيين ...
وهكذا أرانا كيف يمكن أن يعيش الشخص بلا لقب ، ومع ذلك يعمل أكثر من أصحاب الألقاب ! ...
وفي حياته كمعلم ، عاش وقد أخلي ذاته من كل شئ .
لم يكن له مكان يعلم فيه ...
أحياناً كان يعلم وهو جالس على الجبل ، وأحياناً يكلم الناس وهو واقف في سفينة وهم جلوس على الشاطئ ... وأحياناً كان يعلم وهو في وسط الزروع والبساتين ، يتأمل مع تلاميذه زنابق الحقل وطيور السماء ... وأحياناً كان يعلم في الخلاء ، في موضع قفر ، في البرية . وأحياناً في الطريق ... وعلى العموم لم يكن له مكان خاص للتعليم ، لا مركز ثابت ... بل لم يكن له أين يسند رأسه ( لو9 : 58 ) .
وإذ أخلي ذاته من الإرتباط بمكان معين ، عمل في كل مكان ...
عجيب أن الله الذي ملأ السموات والأرض ، لم يكن له أين يسند رأسه ...
عندما ولد يقول الكتاب : " لم يكن له موضع في البيت " ( لو2 : 7 ) . وطول فترة تجسده على الأرض لم يكن له مسكن معين . يذهب أحياناً إلى بيت سمعان ، وأحياناً إلى بستان جثماني ... ما أعجب قول الكتاب : " ومضي كل واحد إلى بيته ، أما يسوع فمضي إلى جبل الزيتون "
( يو8 : 1 ) ...
والذين كانوا يتبعونه ، كانوا يسيرون وراء المجهول ... لا يعرفون لهم موضعاً ولا مركزاً ، ولا مالية معينة ، ولا عملاً محدوداً . عندما قال السيد لمتي الللاوى : " إتبعني " ، تبعه متى ... ولو سألته : " إلى أين ؟ " لما عرف كيف يجيب ... ولو سألته ماذا ستعمل ؟ لوقف أمام علامة إستفهام لا جواب لها . لقد أراد الرب لتلاميذه أن يخلوا ذواتهم أيضاً ... هم مجرد تلاميذ ، لا يعرفون لهم عملاً سوي أن يتبعوا المسيح ، الذي لا يعرفون له وظيفة ولا عملاً رسمياً ولا مكاناً ثابتاً ...
يحيط به جماعة من المساكين :
وكما أخلي المسيح ذاته ، أحبه الذين أخلوا ذواتهم ، أو الذين لا ذوات لهم . فأحاطت به مجموعة من الفقرا والمساكين والمزدري وغير الموجود ... جماعة من جهال العالم وضعفاء العالم وأدنياء العالم ( 1كو1 : 27 ، 28 ) . وهكذا إختار تلاميذه : جماعة من الصيادين الجهلة ، كما إختار تلاميذه : جماعة من الصيادين الجهلة ، كما إختار واحداً من العشارين المرذولين .
والذين أحاطوا به كانوا من عامة الشعب : الأطفال الذين لا يعتد بهم أحد والخطاة والعشارون الذين يحتقرهم الناس ، والنساء أيضاً اللائى لم تكن لهن مكانه في المتجمع اليهودي ... وهكذا كانت نسوة كثيرات يتبعنه ( لو23 : 27 ) ... وحول صليبه وقفت النسوة لا شيوخ الشعب ... وبكت عليه بنات أورشليم ( لو22 : 28 ) ولم يبك عليه أعضاء مجلس السنهدريم !
عاش إنساناً بسيطاً بلا مركز وبلا لقب ، يحيط به أشخاص مجهولان بلا مركز وبلا لقب أيضاً
وحتى لقبه الطبيعي " إبن الله " ، لم يستخدمه كثيراً . وكان يستبدله في غالب الأحيان بلقب " إبن الإنسان " ! ...
عاش وسط الشعب ، لا وسط الرؤساء .؟ وكان قريباً من الصغار ، بعيداً عن الكبار والمعتبرين ، يحبه الشعب ويضطهده الرؤساء ... وحسناً تنبأ عنه داود قائلاً : " الأغراء قاموا على " ( مز54 : 3 ) " الرؤساء إضطهدوني بلا سبب " ( مز119 : 161 ) .
حتى الذين استضافوه كانوا من البسطاء أو من المحتقرين فدخل بيت متي ، ولم يدخل بيت بيلاطس ولا بيت هيرودس ودخل بيت زكا ، ولم يدخل بيت حنان ولا بيت قيافا ...
عاش فقيراً ...
أخلي ذاته من المال والجاه ، فعاش فقيراً لا يملك شيئاً وهو مغني الكل . حتى أنهم لما طلبوا منه الجزية لم يجد ما يعطيه لهم ، فطلب من بطرس أن يلقي الشبكة ويصطاد ويدفع لهم ( مت15 : 27 ) .
وعاش مرفوضاً .
إلى خاصته جاء ، وخاصته لم تقبله ( يو1 : 11 ) كنور أشرق في الظلمة ، والظلمة لم تدركه ( يو1 : 5 ) ، بل أحب الناس الظلمة أكثر من النور ... ( يو3 : 19 ) .
وأصبح الإتصال به تهمة ، والتلمذه له عاراً ...
حتى أن نيقوديموس عندما أراد مقابلته ، قابله في الخفاء ، سراً وليلاً ( يو3 : 2 ) وحتى أن اليهود في إهانتهم للمولود أعمي إذ آمن بالمسيح بعد شفائه ، شتموه قائلين له أنت تلميذ ذاك ( يو9 : 28 ) وهكذا أصبحت التلمذة لذلك الناصري من أنواع السب ووصمة عار . وجاء الوقت الذي أصبح فيه تلاميذه مغلقين على أنفسهم في العلية لا يستطيعون الخروج منها ، خوفاً من مسيه انتسابهم لذاك الناصري ... وهكذا وجدنا عملاقاً عظيماً كبطرس تبرأ من المسيح ومن الأنساب إليه ، وأخذ لعن ويحلف قائلاً إنه لا يعرف الرجل ( مز14 : 71 ) .
وعاش مضطهداً في حياته .
إن السيد الرب لم يخل ذاته فقط من المجد اللائق أن يحيط بلاهوته ، بل أخلي ذاته حتى من مجد البشرية أيضاً ، فكان محتقراً ومخذولاً من الناس ، رجل أوجاع ومختبر الحزن ... محتقراً فلم يعتد به ( إش53 : 2 ، 3 ) .
امسكوه مرة حجارة ليرجموه ( يو10 : 31 ) . ومرة أخري : " أخرجوه خارج المدينة وجاءوا به إلى حافة الجبل حتى يطرحوه إلى أسفل ( لو4 : 29 ) ... وطاردوه في كا مكان ، محاولين أن يصطادوه بكلمة ... ولم تكن له كرامه في وطنه .
وتقبل كل هذه الإهانات الكثيرة وهو الذي لم يفارق لاهوته ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين ...
قالوا له إنك سامري وبك شيطان ! وقالوا عنه إنه أكول وشريب خمر ، ومجدف ، وضال ، وما . قالوا إنه ناقض للشريعة وكاسر للسبت ، وإنه ببعلزبول يخرج الشياطين . فبماذا الأشرار . بذلت ظهرك للسياط وخذيك أهملت للطم " ...
كيف أن هذا الذي تجثوا أمامه كل ركبه مما في السماء وما على الأرض ، الذي ليست السموات طاهرة قدامه ، كيف أنه : " لم يرد وجهه عن خزي البصاق " ؟! الجواب الوحيد أنه أخلي ذاته
وهكذا ضربوه ولطموه ... ما أعجبه في إخلائه لذاته ! يصل الأمر بخالق السماء والأرض أن يسمح لإنسان من تراب أن يصفه على وجهه ، ويقبل على وجهه ، ويقبل ذلك ويسكت ! ... " ظلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه . كشاه تساق إلى الذبح وكنعجة صامته أمام جازيها ، فلم يفتح فاه " ( إش53 : 7 ) .
ووصلت الإستهانة بإله الكل الذي أخلي ذاته ، إلى أنهم فضلوا عليه رجلاً قاتلاً ولصاً هو باراباس ، طالبين أن يصلب المسيح . بل وصلت الاستهانة بإله الكل الذي أخلي ذاته ، إلى أنهم فضلوا عليه رجلاً قاتلاً ولصاً هو باراباس ، طالبين أن يصلب المسيح . بل وصلت الاستهانه بإله الكل إلى أن أصبح ثمنه ثلاثين من الفضة ، ثمن عبد !!
إنه لم يأخذ فقط شكل العبد ، وإنما بيع أيضاً بثمن عبد .. إستغل الناس إخلاءه لذاته ... فلم يمتنع عن إخلاء ذاته ، من أجل الناس .
وكما عاش مضطهدا في حياته ، عاش مضطهداً بعد مماته أيضاً . فحتى قبره كانت تحرسه الجنود المدججة بالسلاح ، خائفين أن ( ذلك المضل !! ) يقوم "فتكون الضلالة الأخيره أشر من الأولي " ( مت27 : 63 ، 64 ) . وهكذا ختموا القبر بالأختام ، وضبطوه بالحراس ...
وهكذا لاحقوا بالشتائم بعد موته . وادعوا أن تلاميذه أتوا ليلاً وسرقوه . ودفعوا في سبيل ذلك ما دفعوه من رشوة ...
جرأة الشيطان عليه .
عبارة " أخلي ذاته " لم تنطبق عليه في فترة ميلاده فحسب ، بل صاحبه طوال حياته على الأرض في الجسد ...
ومن أجل أنه أخلي ذاته ، تجرأ الشيطان ليجربه .
ووصل الرب في إخلائه لذاته ، إلى حد أنه ترك الحرية للشيطان ، يختار الزمان والمكان ونوع التجربة ... ما أشد على النفس قول الكتاب : " ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة ، وأوقفه على جناح الهيكل " وأيضاً " ثم أخذه إبليس إلى جبل عال جداً " ( مت4 : 5 ، 8 ) .
إبليس " يأخذخ " " ويوقفه " حيثما يشاء !! يا للهول ! ...
ما أشد هذا الإخلاء للذات ... من يحتمله ؟!
وإذا بهذا الإله الكامل في معرفته المخبأة فيه كل كنوز العلم والمعرفة ، يقول عنه الكتاب أن الشيطان : " أراه " جميع ممالك الأرض ومجدها !! ... " أراه " ؟! وهو الذي يري الخفيات والمكنونات ، ويعلم حتى أعماق الفكر وبواطن القلوب ...
وهذه الممالك ، التي كلها من صنعه ، وكلها له ، والتي بيده بقاؤها وإنحلالها ، يقول له الشيطان : " لك أعطي هذه جميعها " ... وتصل الجرأة بالشيطان أن يقول له : ط إن خررت وسجدت لي " !! هل إلى هذه الدرجة تصل الجرأة ؟!
ما أعجبك يارب ! من يقدر على مثل هذا الإخلاء ؟!
وأخيراً
يعوزنا الوقت إن تحدثنا عن كل نواحي إخلاء الرب لذاته ... الأمثلة عديدة ، لا تحصي ... وإخلاء الرب لذاته له جذور ممتدة في العهد القديم ، أتركها حالياً لتأملاتك الخاصة ....
العجيب أن المسيح إلهنا بقدر ما كان يخلي ذاته ، كان من الناحية الأخري يفع شأن أولاده ...
أخذ شكل العبد ، وأعطانا أن نصير شركاء الطبيعة الإلهية ! ( 2بط1 : 4 ) . حقاً كما تقول تسابيح الكنيسة " أخذ الذي لنا ، وأعطانا الذي له " . وهكذا صارت لنا شركة معه ( 1يو1 : 6 ) . وصرنا " شركاء الروح القدس " ( عب6 : 4 ) ، ( 2كو13 : 14 ) ، وشركاء في الميراث ( أف3 : 6 ) ... وصرنا جسده ، وأعضاءه ، ثابتين فيه ، كالأغصان في الكرمة ...
وصار الرب يقربنا إليه باستمرار ، ويرفعنا قدامه ...
ومع أنه إبن الله الوحيد ، الكائن في حضن الآب منذ الأزل ، يمس نفسه في غالبيه الأوقات : " إبن الإنسان " . ونحن بني الإنسان يدعونا أولاد الله ، ويكررها مرات عديدة ...
ويقول عنا نور العالم ، ويطلب إلينا أن يضئ نورنا قدام الناس ( مت5 : 14 ، 16 ) . ويدعونا أصدقاء له ، وأحباء ، وخاصته التي يحبها حتى المنتهي . ولكن الأكثر من هذا كله أن يسمح الرب بأن ندعي أخوته ! ويقول الكتاب : " ومن ثم كان ينبغي أن يشبه أخوته في كل شئ " ( عب2 : 17 ) ويقول أيضاً : " ... ليكون هو بكراً بين أخوة كثيرين " ( رو8 : 29 ) .
من هم أخوته هؤلاء ؟! هم نحن التراب والرماد ...
لو أن أحد الآباء الكهنة في أيامنا ، أرسل خطابا إلى واحد من أولاده ، يقول له فيه : " أيها الأخ العزيز " ، لصاح الناس : ما هذا التواضع العجيب وأخلاء الذات ؟! كيف يدعو إبنه أخاً له ؟! فماذا نقول إذن عن رب الأرباب عندما يدعونا إخوته ؟!
بل أكثر من هذا أن الرب كثيراً ما يختفي لنظهر نحن . فعندما ظهر الرب لشاول الطرسوسي ودعاه ، فاستجاب وقال : " ماذا تريد يارب أن أفعل " ( أع9 : 6 ) . حوله الرب إلى القديس حنانيا في دمشق قائلاً له : ط قم وأدخل المدينة فيقال " ( أع9 : 6 ) حوله الرب أن نفعل " . وظهر الرب في رؤيا لحنانيا ، وكلمة من جهة شاول ، فشفاه وعمده إليه ريالة الرب .
إن عمل الكهنوت كله ، وكل أعمال الخدمة والرعاية ، هي أعمال للرب ، يعمل فيها الله في إختفاء ، ويجعلنا نحن ظاهرين في الصورة . هو يعمل فينا ، وهو يعمل بنا ، وهو يعمل معنا ، ولكنه غير ظاهر ، أما نحن فنبدو للناس ، كأننا نعمل . بينما " ليس الغارس شيئاً ولا الساقي ، بل الله الذي ينمي " ( 1كو3 : 7 ) . ولكن الله كثيراً ما يعطي السلطان لأولاده ، دون أن يستخدمه مباشرة ...
والمطلوب من الخدام الذين يعمل فيهم الله في أختفاء ، أن يختفوا هم ليظهر الله .
فمجد الله لا يجوز أن يعطي لآخر . أما الخدام فعليهم أن يصلوا قائلين : " ليس لنا يارب ليس لنا ، ولكن لإسمك القدوس أعط مجداً " ( مز115 : 1 ) .
وعمل المعجزات يعلمه الله أيضاً في اختفاء عن طريق أولاده فيظهرون هم في الصورة ، أما الرب فيقول لهم في حب " من يكرمكم يكرمني " ... الله يرسل السيدة العذراء ، أو الملاك ميخائيل أو مارجرجس أو غيرهم من القديسين ، فيعلمون معجزات ، ويمجدهم الناس ، ويفرح الرب بأن أولاده يتمجدون ... بل كثيراً ما يقع إنسان في ضيقة ، فيصرخ مستغيثاً " يا مارجرجس " ، ويسمع الرب ، فيرسل مارجرجس ، فينقذه ... أو ينذر إنسان نذراً للعذراء ... ويفرح الرب ويستجيب ...
بل أن الكنائس ـ وهي كنائس الله ـ سمح أن تبني على أسماء أولاده . فنقول كنيسة العذراء ، وكنيسة مارجرجس ، وكنيسة الأنبا أنطونيوس ، وكنيسة مارمرقس ... وكلها بيوت للرب . ولكن الرب يفرح بأولاده ...
بل حتي شريعة الرب ينسبها أيضاً لأولده أحياناً ، فيقول -: " ناموس موسي " أو " شريعة موسى " ، بنما هي شريعة الرب لا غيره . ويقول الرب للأبرص : " قدم القربان الذي أمر به موسي " ( مت8 : 4 ) ويقول أيضاً : " موسى من أجل قساوة القربان إذن لكم أن تطلقوا نساءكم " ( مت19 : 8 ) ، بينما الذي هو الله ، والذي أمر هو الله . ولكن الله يرفع من شأن موسي ، ويضع إسمه بدلاً من نفسه ! ...
من هم هؤلاء يارب الذين تريد أن تظهرهم ؟ إنهم تراب ورماد ، عدم ليس لهم وجود ... ولكنهم أحباؤك قديسوك ...
هناك عبارة عجيبة في العهد القديم ، وقفت أمامها منذهلاً لحظات طويلة ... في قصة الله مع موسى النبي . عندما ثقلت المسئولية على موسي ، قال له الرب : " إجمع إلى سبعين رجلاً ... فأنزل وأتكلم معك هناك . وآخذ من الروح الذي عليك وأضع عليهم ، فيحملون معك ثقل الشعب " ( عد11 : 16 ، 17 ) .
تصوروا ، الله يأخذ من الروح الذي على موسى ويضع عليهم ! وما هو الروح الذي على موسى ؟ أليس من عندك يارب ؟! كيف تأخذ منه ؟ وكيف تأخذ منه أمام كل هؤلاء ؟ أعطهم أنت من عندك مباشرة كما أعطيت لموسى ، أنت يا مصدر كل عطية صالحة ، أنت مصدر الحكمة والتدبير والفهم ... كلا ، إنني آخذ أمامهم من الروح الذي على موسى ، وأضع عليهم ، وأرفع شأن موسى في أعينهم ... مبارك أنت يارب في كل تدبيرك الصالح .
الله يحب أولاده ، ويريد أن يكرمهم ، في السر والجهر .
بل أن الله كثيراً ما كان يسمي نفسه بأسماء أولاده .... فيقول : " أنا إله إبراهيم ، وإله إسحق ، وإله يعقوب " ( خر3 : 6 ) . ما هذا يارب ؟ إنهم هم الذين ينبغي أن ينتسبوا إليك ... الله يختفي ويظهر أولاده . وهم بالمثل يختفون لكي يظهر هو أنها محبة متبادلة .
ومن المظاهر العجيبة في إخلاء الرب لذاته ، ورفع شأن أولاده ، قصة عماد الرب من عبده يوحنا بن زكريا ...
يوحنا الذي لم يكن مستحقاً أن ينحني ويحل سيور حذائه ، يوحنا الذي قال له في صراحة : " أنا محتاج أن أعتمد منك " ، يقف أمامه رب المجد قائلاً : " إسمح الآن " ... فسمح له ، وإعتمد الرب منه ... يا للعجب ... رئيس الكهنة الأعظم ، وراعي الرعاة ، الكاهن إلى الأبد على طقس ملكي صادق يأتي ليعتمد من يوحنا ، بينما تنفتح السماء ، ويسمع صوت الآب قائلاً : " هذا هو إبني الحبيب الذي به سررت " ( مت3 : 13 ـ 17 ) .
كانت معمودية يوحنا للتوبة ... ولم يكن السيد المسيح محتاجاً إلى التوبة مطلقاً لأنه قدوس بلا عيب . فلماذا أعتمد ؟! الذين جاءوا إلى يوحنا ليعتمدوا جاءوا معترفين بخطاياهم ( مت3 : 6 ) . ولم تكن للرب خطايا يعترف بها ، ويتوب عنها ويعتمد بسببها ، حاشا ... فلماذا إعتمد إذن ؟!
إنه من أجلنا أخلي ذاته وأخذ شكل العبد ... وبنفس الوضع ، من أجلنا إعتمد . من أجلنا أخذ شكل الخطاة ، إذ وضع عليه إثم جميعنا ، ووقف يطلب عنا معمودية التوبة ، كنائب عن البشرية الخاطئة ...
كثيرة هي الأسباب التي لأجلها أخلي ذاته ، نذكر منها :
1 ـ لكي نستطيع أن نتمتع به ونوجد معه :
لو أنه ظهر في جلال لاهوته ، ما كان إنسان يستطيع أن يقترب إليه ... ما كان تلميذه يوحنا يجرؤ أن يتكئ على صدره ، وما كان الأطفال يسطيعون أن يجروا نحوه ويحيطوا به ويهرعوا إلى حضنه ، وما كانت المرأة الخاطئة تستطيع أن تتقدم نحوه وتمسح قدميه بشعرها . بل ما كانت العذراء تستطيع أن تحمله على كتفها أو ترضعه من ثديها .
لو كان قد نزل في قوة لاهوته ، لكان الناس يرتعبون منه ويخافون ... إن الرب عندما نزل على الجبل ليعطي الوصايا العشر . " أرتجف كل الجبل جداً ، وصار كل الجبل يدخن ، وصعد دخانه كدخان الأتون " ( خر19 : 18 ) و " أرتعد الشعب ووقفوا من بعيد . وقالوا لموسى : تكلم أنت معنا فنسمع . ولا يتكلم معنا الله لئلا نموت " ( خز20 : 18 ، 19 ) . وهكذا رأي الرب أن يخلي ذاته ، حتى يمكن للناس أن يختلطوا به دون أن ترعبهم هيبته ، أو يصدهم جلاله
إن موسى النبي ، عبد الرب ، عندما قضي معه أياماً على الجبل لأخذ اللوحين نزل فإذا وجهه يلمع لم يستطيع الناس أن يحتملوه : " فخافوا أن يقتربوا إليه " ( لذلك كان يضع على وجهه برقعاً حتى يحتمل الشعب أن ينظروا إليه ( خر34 : 29 ـ، 35 ) .
فإن كان هذا هو الجلال الذي أخذه موسى من عشرته للرب ، فماذا يكون جلال الرب نفسه ؟! وإن كان الناس لم يحتملوا النور الذي على وجه موسى وهو نازل من عند الرب ، فكيف تراهم كانوا يحتملون نور مجد الرب الذي قال عنه القديس يوحنا الرسول في رؤياه أن: " وجهه كالشمس وهي تضئ في قوتها " ( رؤ1 : 16 ) ؟!
إنه عندما ظهر لشاول الطرسوسي ، بهرت عيناه من قوة النور . وظل فترة لا يبصر والقشور تغطي عينية . فمن كان يحتمل أن يرى الرب في مجده ... من يرى الرب ويعيش ؟!
وعندما أظهر الرب شيئاً من مجد لاهوته على جبل التجلي ، كان التلاميذ مرتعبين ، ولم يكن بطرس يعلم ما يتكلم به ( مر9 : 6 ) . ولما سمعوا الصوت من السحابة : " سقطوا على وجوههم ، وخافوا جداً " ( مت17 : 6 ) . كيف كان ممكناً إذن أن يحتمل الناس مجد الرب لو لم يخل ذاته ؟ وهو أيضاً من أجل إنكاره لذاته ، لم يأخذ معه كل تلاميذه إلى جبل التجلي ، ولم يعلن هذا المجد للجميع . وحتي الذين شاهدوا مجده : " أوصاهم أن لا يحدثوا أحداً بما أبصروا إلا متى قام ... " ( مر9 : 9 ) .
إن إخفاءه لأمجاده مظهر آخر من إخلاء الذات ...
كان الرب يستطيع باستمرار أن يكون في مجد التجلي بين الناس ، ولكنه لم يفعل . كان يريد أن يتمتعوا به ، ويختلطوا به ، لا أن يهربوه .
ولماذا أيضاً أخلي ذاته ؟
2 ـ أراد أن يصحح فكرة الناس عن الألوهية :
لقد إقترب إلينا حتى لا تظل فكرة الناس عن الألوهية أن الله جبار ومخيف فأراد أن يجذبنا بالحب لا بالخوف .
أراد أن يدخل قلوبنا عن طريق محبته ، لا عن طريق مخافته . وهكذا نري أنه عندما رفضت إحدي قري السامرة أن تقبله ، رفض أن يسمع لتلميذه اللذين طلبا أن تنزل نار من السماء وتفني تلك القرية ، ووبخها قائلاً : " لستما تعلمان من أي روح أنتما " ( لو9 : 55 ) . إنه لم يشأ أن يرهب أهل السامرة بقوته ، بل أن يكسبهم بمحبته . وصبر معلمنا الصالح إلى أن جاء الوقت الذي دخل فيه أهل السامرة بالمحية والترحاب لا بالنار النازلة من السماء ...
الله لا يريد أن يكون مخيفاً بل محبوباً . الناس بطبيعتهم ينفرون ممن يخافونه . وقد يخضعون له في ذل ، لكنهم ينفرون منه في قلوبهم ...
كان التلاميذ يريدونه قوياً جباراً مهاباً ، بحسب فهمهم البشري ، لذلك انتهروا الذين قدموا الأطفال إليه . أما هو ، فقال لهم : " دعوا الأولاد يأتون إلى ولا تمنعوهم ... " . وأخذ الأولاد : " وإحتضنهم ، ووضع يديه عليهم وباركهم " ( مر10 : 13 ـ 16 ) . وكذلك عندما إنتهر التلاميذ الأعمين الصارخين نحوه ، وقف المسيح وناداهما ، وتحنن ، ولمس أعينهما فأبصره وتبعاه ( مت20 : 30 ـ 34 ) .
3 ـ وأخلي الرب ذاته لبعالج السقطة الأولي :
ماذا كانت السقطة الأولي سوي الكبرياء ، سواء سقطة الشيطان أو سقطة الإنسان ؟! فالشيطان قال في قلبه : " أصعد إلى السموات ، أرفع كرسي فوق كواكب الله ... أصير مثل العلي " ( إش14 : 13 ، 14 ) . وعندما أسقط أبوينا الأولين أغراهما بقوله : " تنفتح أعينكما ، وتكونان مثل الله ... " ( تك3 : 5 ) .
أخلي الله ذاته آخذاً صورة العبد ، لكي يعطي درساً للعبد الذي أراد أن يرفع ذاته ويصير إلهاً . وهكذا صار إبن الله الوحيد إبناً للإنسان ، ليعالج كبرياء الإنسان ويجعله إبناً لله ، بالإتضاع الذي إتضع به إبن الله ، وليس بكبرياء السقطة الأولي ...
وهكذا في إخلائه لذاته قيل إنه شابه : " أخوته " في كل شئ ... ( عب2 ك 17 ) .
إن الرب عندما يسمي عبيده ومخلوقاته أخوة له ، إنما يبكت الذين يعاملون إخوتهم كعبيد لهم ، أولئك الذين يؤلهون أنفسهم كلما ينالون مركزاً أعلي من إخوتهم ... أما السيد المسيح إلهنا فلم يفعل هكذا ... لقد أخلي ذاته ، حتى استطاع بطرس أن يأخذه إليه وينتهره قائلاً : " حاشاك يارب ... " ( مت16 : 22 ) . وسمح لكثيرين أن يجدلوه ويناقشوه ، بعكس كثرين من البشر الذين لا يقبلون جدالاً من أحد وكان تلاميذه يحاورنه حسبما يريدون حتى سموهم " الحواريين " ...
وهكذا أخلي السيد المسيح ذاته ، وصار كواحد منا ... أراد الإنسان أن يرتفع ويصير مثل الله . فنزل الله وصار مثل الإنسان ... لكي ينيله بغته ، ولكن بطريقة سليمة ، بإتضاع الله لا بأرتفاع الإنسان ....
الإنسان كان يريد أن يقف مع الله في صف واحد ... فبدلاً من أن يرتفع الإنسان ليقف مع الله ، نزل الله ليقف مع الإنسان . ليكما بنزوله يخجل الإنسان وتنسحق نفسه ويتضع قلبه . وباتضاعه يقترب إلى صورة الله المتضع . لقد أخذ الرب صورة العبد ، لكي يخفض من تشامخ السادة ...
فليتنا نتضع كلما تأملناه إخلاء الرب لذاته . ليتنا نتضع نحن الذين كلما أعطينا سلطاناً في أيدينا ، نريد أن تميد الأرض تحت أقدامنا ، وترتعش السموات من فوق ...
إن كان السيد المسيح قد أخلي ذاته ـ وفيه كل الملء ـ فنحن الفراغ ، كيف نخلي ذواتنا ؟! السيد المسيح الذي فيه كل ملء اللاهوت ، أخلي ذاته وصار في الهيئة كإنسان . وهو الإله أخذ شكل العبد ، فالعبد عندما يخلي ذاته أي شئ يكون ؟ إن سرنا الإنسان هو أن يسأل الإنسان ذاته : ما هي ذاتي حتى أخليها ؟! وعندما يشعر الإنسان أنه فراغ ، لا يوجد فيه شئ يخليه ، يكون حينئذ في طريقة إلى كل الملء ...
النزول إلى فوق :
إن السيد المسيح إلهنا ـ عندما أخلي ذاته ـ نزل من السماء إلى الأرض ، وما أبعد المدي بين الإثنين ! ونحن الذين على الأرض إن أردنا أن ننزل منها فإلي أين ننزل ، وإلى أين نهبط ؟ هل تعلمون إلى أين ننزل وإلى أين نهبط ؟ لا شك أننا في هبوطنا ، وإنما نهبط من الأرض إلى السماء . وفي نزولنا إنما ننزل من تحت إلى فوق ... !!
وهكذا نري أن السيد الرب قد غير المقاييس البشرية ، مقاييس العلو والهبوط ...
ألغاها كلها ، وغيرها إلى العكس فقال : " من يرفع نفسه يتضع ، ومن يضع نفسه يرتفع " ( مت23 : 12 ) . وقال في نفس المعني : " من أراد أن يكون فيكم عظيماً ، فليكن خادماً . ومن أراد أن يكون فيكم أولاً ، فليكن عبداً " ( مت20 : 26 ) . وقال أيضاً : " إذا أراد أحد أن يكون أولاً ، فليكن آخر الكل وخادماً للكل " ( مر9 : 35 ) .
فالشخص الذي يرفع نفسه ، إنما يهبط بمستواها الروحي . كلما إنتفخ ، يتضاءل حتى يصبح لا شئ ... مثل هذا شبهه القديس أوغسطينوس بالدخان الذي كلما يرتفع ، تتسع رقعته . وكلما تتسع رقعته يتلاشي حتى يصبح لا شئ . وقد أخذ القديس أوغسطينوس هذا التشبيه عن داود النبي عندما قال : " لأن الأرشاد يهلكون فنوا كالدخان فنوا " ( مز37 : 20 ) " كما يذري الدخان تذريهم " ( مز68 : 2 ) .
إن الذين يظنون أنهم يرفعون ذواتهم ، إنما ( يرفعونها ) إلى أسفل ، لا إلى فوق وهذا هو ما قصده الرب بقوله : " من يرفع نفسه يتضع " ...
أما المتواضعون فكلما يهبطون إلى أسفل يرتفعون إلى فوق أو ـ أن صح التعبير يهبطون إلى فوق ... هم باستمرار ينزلون إلى الأعالي الكائنة في الأعماق ، لأن السيد الرب أعطانا فكرة جديدة عن العلو والعمق ، عندما أخلي ذاته .. لقد علمنا أن العلو هو العمق ، وأن العلو والعمق ،عندما أخلي ذاته ... لقد علمنا أن العلو هو العمق ، وأن العلة يوجد تحت لا فوق ... وأعطانا مقاييس للعظمة لم تعرفها البشرية من قبل .
إن المتضعين من قبل في هبوطهم ، والمتكبرين يهبطون في صعودهم . وكل من يريد أن يصعد إلى فوق ، ويلتصق بالله ، علية أن ينزل إلى الأرض ويقول مع داود : " لصقت بالتراب نفسي " ( مز119 : 25 ) . وإلهنا البائس من المزبلة ، ليجلس مع رؤساء شعبه " ( مز113 : 7 ) .
والآن ، كيف تخلي ذاتك أيها الأخ :
إن لم تتمكن من إخلاء ذاتك بالتمام ، فعلي الأقل :
إخفض نفسك درجة عما تستحقه ، أو عما تظن أنك تستحقه ، في نظر الناس . في إحدي المرات رسم كاهن جديد ، وقضي فترة الأربعين يوماًُ في الدير . وفي تلك الفترة ـ وهو في الدير ـ سألني نصيحة له في خدمته المقلبة ، فقلت له :
كن إبناً وسط إخوتك ، وأخاً وسط أولادك " .
جرب كيف تتنازل عن حقوقك ، عما يليق بك من كرامة . وفي كل وقت ضع أمامك الآية التي تقول : " المحبة لا تطلب ما لنفسها " ( 1كو13 : 5 ) ... فلا تطلب أن تأخذ كل حقوقك ، ولا تطلب أن تدافع عن نفسك في كل شئ ...
في إخلائك لذاتك إلق عنك الأشياء التي تضخمك في نظر نفسك أو في نظر الناس ، عليك أن تتخلي عن مظاهر العظمة ، وتعيش بسيطاً ....
واعلم أن السيد المسيح في إخلائه لذاته ، أعطانا فكرة أن العظمة لا تنبع من مظاهر خارجية ، وملا من رفعة تحيط لذاته ، أعطانا فكرة أن العظمة لا تنبع من مظاهر خارجية ، وى من رفعة تحيط بالإنسان . وإنما العظمة الحقيقية تنبع من الداخل ، من كنه الذات النقية . كلما يصير القلب نقياً ، يأخذ صورة الله ، ويصير حقاً على مثال الله حسبما خلق في البدء ( تك1 : 26 ، 27 ) .
وفي كل نقاوتك وفضائلك ، إنسب الفضل كله لله لا إلى نفسك . أشعر دائماً أن الله هو العامل فيك ، وليس أنت . وأنك بدونه لا تستطيع أن تعمل شئياً .
وإذا إشتركت مع إنسان في عمل ، قدمه على نفسك في كل شئ . أعطه التفوق ، وأعطه الفضل ، وانسب إليه ما تحاولبأن تنسبه إلى نفسك من العظمة . حتول أن تختفي ليظهر الله ، ولتظهر أخوتك ...
وإن لم تستطع أن تخلي ذاتك ، فعلي الأقل لا تضع فوقها ثقلاً جديداً من الارتفاع ، حتى لا تنوء نفسك تحت ثقل إرتفاعك ..
على الأقل ... لا تكبر ذاتك . لا تتحدث عن نفسك ، لا تشرح فضائلك لا تسرد قصصاً يفهمون منها شيئاً عالياً عنك ...
ضع أمامك صورة المسيح في إخلائه لذاته ..
في المسيح يسوع أيضاً ، الذي إذ
كان في صورة الله لم يحسب خلسة
أن يكون معادلاً لله .
لكنه أخلي ذاته آخذاً صورة
عبد ، صائراً في شبة الناس . وإذ
وجد في الهيئة كإنسان وضع
نفسه وأطاع حتى الموت ، موت
الصليب " .
( فى2 : 5 ـ 8 ) .
إن السيد الرب ، إذ أخلي ذاته وأخذ شكل العبد لم يقتصر ذلك على حادثة الميلاد فحسب ، بل شمل ذلك حياته كلها التي لا تدخل تحت حصر .
ميلاد السيد المسيح المتواضع كان مجرد مظهر من مظاهر إخلاء الذات وسنحاول أن نتبع إخلاء الرب لذاته في كل ناحية ... ونحاول أن ندرك الأسباب التي من أجلها أخلي ذاته ... ثم نأخذ لأنفسنا عظة عملية ، محاولين أن نطبق عنصر الإخلاء في حياتنا ...
وعلينا أن نفهم بالدقة : ما هو معني إخلاء الذات ...
إنه لم يخلها طبعاً من جوهرة ولا من طبيعته ولا من لاهوته الذي لم يفارق ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين . بل أخلي ذاته من الأمجاد المحيطة به ومن عظمة السماء . وسنشر هذا وغيره بالتفصيل في الصفحات المقبلة ...
جميل بنا أن نلاحظ أن هذا الإخلاء لم يكن إقلالاً من شأن الرب ، وإنما هو عظمة جديدة في مفهومها . كان الناس يفهمون العظة في مظاهر خارجية . أما عظمة من يخلي ذاته ويأخذ شكل العبد ، فلم يكن أحد يتصورها . هذه قدمها الرب لنا ...
عجيب هو الرب في إتضاعه ، عندما أخلي ذاته في ميلاده .
نزل إلى العالم هادئا بدون ضجة ، ودخله في خفاء لم يشعر به أحد ... لم يحدد من قبل موعد مجيئه .
وهكذا ولد في يوم مجهول ، لم تستعد له الأرض ولا السماء ، ولم يستقلبه فيه أحد . يوم ميلاده كان نكره بالنسبة إلى العالم ، مع أنه من أعظم الأيام إذ بدأ فيه عمل الخلاص الذي تم على الصليب .
ولو نزل الرب إلى العالم في صفوف ملائكته ، على سحابة عظيمة ، أو في مركبة نورانية يحيط به الشاروبيم والسارافيم ... وقد إرتجت له السموات وكل قوي الطبيعة ... أو لو أن السماء إحتفلت بميلاده ، وليس بنجم بسيط يظهر للمجوس ، بل إهتزت له كل نجوم السماء وكواكبها ... لو حدث ذلك ، لقلنا إنه أمر يليق بالرب ومجده ... !
لو أن شخصاً كان مسافراً إلى مكان ، لأرسل الرسائل قبلها ، فيستقبله الأحباء والأصدقاء والأقارب والمعارف والمريدون ، وربما يستاء إذا قصر أحد في إنتظاره أو في إستقباله ....
أما السيد المسيح فدخل إلى العالم في صمت ، بعيداً عن كل مظاهر الترحيب ، في ضجيج ، وبطريقة بسيطة هادئة ... دخل بنكران عجيب للذات ، أو في إخلاء عجيب للذات وكل الذين إستقبلوه جماعة من الرعاة المساكين ، ثم المجوس ...
هناك أشخاص يحبون الضجيج وبهرجة الترحيب في دخولها وفي خروجهم ، لأن فاعلية ميلاد السيد المسيح لم تغيرهم بعد ...
لم يخل السيد المسيح ذاته في هدوء مجيئه إلى العالم فحسب ، بل في كل ظروف ميلاده . فكيف كان ذلك ؟
ولد من أم فقيرة يتيمة ، لم تكن تجد من يعولها . عهد بها الكهنة إلى يوسف ، خطبوها له لتعيش في كفنه .
وولد في قرية هي : " الصغري بين رؤساء يهوذا " ( مت2 : 6 ) .
وسكن في الناصرة التي يعجب الناس إن أمكن أن يخرج منها شئ صالح ( يو1 : 46 ) . ودعي ناصرياً .
وعاش في بيت نجار بسيط ، حتى كانوا يعيرونه قائلين : " أليس هذا هو إبن النجار " ( مت13 : 5 ) .
وعاش ثلاثين سنة مجهولاً ، كفترة تبدو ضائعة في التاريخ . حتى الرسل لم يعتنوا أن يكتبوا عنها شيئاً تقريباً ... عاش فيها دون أن يلتفت إليه أحد ، مخفياً لا يعرف عنه أحد شيئاً ، كأي شخص عادي ... بينما تلك السنوات الثلاثون هي فترة الشباب والقوة التي يهتم فيها كل إنسان بذاته ، ويود فيها كل شاب أن يظهر وأن يعمل عملاً ...
أخلي الرب ذاته فعاش في التطورات الطبيعية كسائر البشر .
قضي فترة كرضيع وكطفل . ولم يستح من ضعف الطفولة ... بما فيها من إحتياج إلى معونة آخرين ، وهو معين الكل !
إحتياج إلى رعاية أم ، وهو راعي الرعاة ! إحتياج إلى إمراة من صنع يديه ، تحمله على يديها ، وتهتم به ، وهو المهتم بكل أحد . وتغذيه ، وتعطيه ليأكل ويشرب !
ومن العجيب في طفولته ، أنه أخلي ذاته من استخدام قوته . فهرب من امام هيرودس ، بينما روح هيردوس في يده ! هرب من هيرودس وهو الذي خلق هيرودس ، وأبقاه حتى ذلك اليوم . عجيب هذا الأمر ..عجيب أن نري القوي القادر على كل شئ يهرب مثل سائر الذين يهربون من الضيق ! يهرب من القتل وهو الذي يملك الحياة والموت ... وجاء إلى مصر وعاش فيها سنوات . ولم يرجع إلا بعد أن هذا الجو ، بينما كان يستطيع أن يفلت من الرجل بطريقة معجزية أو يقضي عليه ...
أخلي ذاته ، فاحتمل ضعف البشرية وهو المنزه عن كل ضعف . وسمح لنفسه أن يجوع ويعطش ويتعب وينام ، كسائر البشر ...
عجيب أن يقال عن الرب أنه في آخر الأربعين يوماً : " جاع أخيراً " ( مت4 : 2 ) . وعجيب أن هذا الينبوع الذي روي الكل يقول للسامرية : " أعطيني لأشرب " ( يو4 : 7 ) ، ويقول على الصليب : " أنا عطشان " ( يو19 : 28 ) . وعجب أن يقال عنه إنه تعب وجلس عند البشر ( يو4 : 6 ) وإنه نام في السفينة ( لو8 : 23 ) .
أخلى الرب ذاته كل هذا الإخلاء ، ليخزي الذين يفتخرون ويتكبرون . وكأنه يقول لكل هؤلاء : إنني لم أولد في قصر ملك ، ولا على سرير من حرير ، وإنما في مزود للبهائم . ولكني سأجعل هذا المزود أعظم من عروش الأباطرة والملوك ... سياتيه الناس من مشارق الشمس إلى مغاريها ليتباركوا منه .
ليس المكان هو الذي يمجد الإنسان ، ولكن الإنسان هو الذي يمجد المكان . والعظمة الحقيقية إنما تنبع من الداخل .
فليحل الرب في أي مكان ، ولو كان مكاناً للبهائم ، وليولد في أية قرية ولو كانت هي الصغري في يهوذا . ولكنه سيرفع من شأن كل هذا ... يولد في هذه الحقارة إلى مجد . يولد من فتاة فقيرة ، ويجعلها أعظم نساء العالم ... ويولد في بيت رجل نجار بسيط ، فيحوله إلى رجل قديس مشهور في الكنيسة ...
أخلي ذاته من صفة الملك :
كان يمكن لمعلمنا الصالح أن يأتي كملك . ولو أتي كذلك ، ما كان أحد ينكر عليه أنه ملك . فهو من سبط يهوذا صاحب المملكة ، ومن نسل داود الملك .
ولكنه أخلى ذاته من الملك ، وهو ملك الملوك ( رؤ17 : 14 ) ...
لم يأت في هيئة ملك . لأن اليهود في في تفاخرون بالعظمة البشرية ، كانوا ينتظرون أن يأتي المسيا كملك عظيم ، لأنهم كانوا يظنون أن عظمة أن عظمة الملوك هي التي تخلصهم وكان قصد الرب أن يحطم هذه الفكرة أياً . فلم يخلصهم بعظمة الملوك ، بل بتواضع النجار الناصري ، الذي إستهانوا به قائلين : " أليس هذا هو النجار إبن مريم ؟! " ( مر6 : 3 ) . أتي كنجار بسيط ، ولم يأت كملك . ولما سعي إليه الملك ، رفضه وهرب منه . ولما " رأي أنهم مهتمون أن يأتوا ليختطفوه ويجعلوه ملكاً ، إنصرف إلى الجبل وحده " ( يو6 : 15 ) .
ورضي أن يحاكم أمام عبيده ، أمام بيلاطس وهيرودس ، وأمام أعضاء مجلس السنهدريم ... وكان يقول : " مملكتي ليست من هذا العالم " ( يو18 : 36 ) .
أخلي ذاته من صولجان الملك ومن الكرامة المقدمة للملوك ، مفضلاً أن يحاط بمحبة القلوب الطائعة لقلبه ، وليست الخائفة من سطوه سلطانه ...
أخلي ذاته من كرامة الرئاسة :
لم يطلب أن يكون رئيساً لتابعيه ، أو سيداً ... وإنما صديقاً لهم . وهكذا قال لتلاميذه : " لا أعود أسميكم عبيداً ... لكني سميتكم أحباء " ( يو15 : 15 ) . وخاطبهم في إحدى المرات قائلاً : " أقول لم يا أصدقائي ... " ( لو12 : 4 ) .
وأخلي ذاته لدرجة أنه إنحني وغسل أرجلهم ...
لم يعامل الناس كعبيد من صنع يديه ... بل كانت تربطه بهم رابطة الحب لا رابطه الرئاسة . إن البشر هم الذين يستهويهم حب الرئاسة والسلطان ... أما معلمنا المتواضع فكان يريد قلوب الناس لا خضوعهم ، وكان يريد محبتهم لا تذللهم ولم يقم نفسه رئيساً للناس بل صديقاً .
لذلك كان محبوباً لا مخافة . يهابه الناس عن توقير ، لا عن رعب . لم يرد أن تكون له الرهبة التي ترعب الناس ، بل الحب الذي يجذب الناس . وهكذا أمكن للأطفال أن تلتف حوله ، وأمكن ليوحنا أن يتكئ على صدره .
إن كل من يحب العظمة ، لم يتمتع بفاعلية الإيمان بعد .
قال الأنبا أنطونيوس مرة لأولاده : [ يا أولادى ، أنا لا أخاف الله ] . فأجابوه : [ هذا الكلام صعب يا أبانا ] . فقال لهم : [ ذلك لأني أحبه . والمحبة تطرح الخوف إلى خارج ] ( 1يو4 : 18 ) .
إن أهل العالم يحبون السلطة والنفوذ والسيطرة . يريدون أن يخافهم الناس ، ولو عن قهر . أما المسيح إلهنا فيقول : " من يحبني يحفظ وصاياي " . يعني أن حفظ وصاياه يكون عن حب وليس عن خوف ...
أخلي الرب ذاته فلم يستخدم قوته على صنع المعجزات إلا في الضرورة القصوى .
لم يستخدم قوته من أجل ذته ، ولا من أجل منفعة خاصة لم يستخدم لاهوته ليمنع عن نفسه الجوع أو العطش أو التعب أو الألم . رفض أن يحول الحجارة إلى خبز لسد جوعه الشخصي ، بينما بارك الخمس خبزات من أجل إشفاقه على الناس .
لم يستخدم قوته ليهبر الناس بالمعجزات ، ولا من أجل الإيمان . وعندما كانوا يطلبون منه معجزة لأجل ( الفرجة ) لم يكن يقبل . بل كان يبكتهم قائلاً : " جيل فاسق وشرير يطلب آية ولا تعطي له ... " ( مت12 : 39 ) . لم يبهر الناس بالمعجزات مثلما فعل سيمون الساحر ، ومثلما فعلت عرفاه فيلبي ، ومثلما سيحدث في لأزمنة الأخيرة من المسيح الدجال والوحش والتنين ...
رفض أن يلقي نفسه من على جناح الهيكل ، لتحمله الملائكة .
ويري الناس المنظر فينذهلون ويؤمنون معجبين بعظمته ! ... رفض ذلك أخلي ذاته من إعجاب الناس . إن معلمنا الصالح لم يحط نفسه بالمجد ، لأنه أراد أن يلتف الناس حول التواضع وليس حول المجد .
ومعجزة كحادثة التجلي التي كان يمكن أن تبهر الجماهير ، لم يشأ أن يراها كل الشعب ، ولا حتي كل تلاميذه الإثني عشر ، بل رآها ثلاثة فقط ، وأوصاهم ألا يظهروها ... كان زاهداً في كل هذه الأمور التي يبحث عنها من يريدون أن يظهروا ذواتهم ... بل أكثر من هذا أنه بعد كل معجزة تبهر البصر كان يخفي تلك المعجزة بعمل من أعمال الضعف البشري أو بكلام عن آلامه ... أو يطلب ممن حدثت معه أن يخفيها ...
وحتى من أجل الإيمان لم يشأ أن يبهر الناس بالمعجزات . أراد أن يكون إيمانهم بدافع من الحب والإقتناع وليس بسبب المعجزات . وما الدليل على هذا ؟
دليلنا أنه كان يطلب الإيمان قبل المعجزة ، وليس كنتيجة لها . وكثيراً ما كان يسال الذي يجري معه المعجزة " أتؤمن ؟ " ، أو يقول له : " ليكن لك حسب إيمانك " . وإن كان يؤمن قبلاً تحدث معه المعجزة ... ولذلك قيل عنه إنه في وطنة : " لم يصنع هناك قوات كثيرة لعدم إيمانهم " ( مت13 : 58 ) . كان الإيمان يسبق المعجزة . وكانت المعجزة نتيجة للإيمان وليست سبباً .
وكثير من معجزات السيد الرب كانت أعمال رحمة وحب وكانت لها أهداف روحية ... تتبعوا عنصر الحب والحنان في معجزات الرب يظهر لكم واضحاً وجلياً ... وهكذا نري في معجزة لإقامة العازر أنه بكي قبل أن يقيمه . إن الحب الذي كان يعتصر قلبه ، ظهر أولاً في عينيه الدامعتين ، قبل أن تظهر قوته في عبارة : " هلم خارجاً " . وكثير من معجزات الشفاء كانت تسبقها عبارة : " فتحنن يسوع " أو " أشفق " أو ما شابه ذلك ...
ولم يستخدم معجزاته في الدفاع عن نفسه ، أو في اٌلإنتقام من مضطهديه وشاتميه . أهانوه بكل أنواع الإهانة ، وأشبعوه شتماً وتعييراً . وكان يستطيع أن يجعل الأرض تفتح فاها وتبتلعهم ، أو تنزل نار من السماء وتفنيهم . ولكنه لم يفعل . كان قد أخلي ذاته من استخدام هذه القوة التي فيه .
وعاش بغير لقب وبغير وظيفة :
عاش السيد المسيح بغير لقب ، وبغير وظيفة رسيمة في المجتمع ، وبغير اختصاصات في نظر الناس ...
ماذا كانت وظيفة المسيح في نظر المجتمع اليهودي ، أو في نظر الدولة ؟! لا شئ .. كان أمامهم مجرد رجل يجول من مكان إلى آخر ، يعمل ويعلم ، دون أن يتسند إلى وضع رسمي ...
لم يكن من أصحاب الرتب الكهنوتية في نظر الناس ، لأنه لم يكن من سبط لاوى ولا من أبناء هارون الناحية ، أنه عندما شفي الرجل الأبرص ، قال له : " إذهب أر نفسك للكاهن ، وقدم القربان الذي أمر به موسى " ( مت 8 : 4 ) . يا لها من عبارة مؤثرة للغاية !! تصوروا رئيس الكهنة الأعظم ، منشئ الكهنوت ومؤسسه ، ومنع كل سلطة كهنوتيه ، يقول للأبرص : " إذهب أر نفسك للكاهن " !! ...
وماذا عنك أنت يارب ن أنت الكاهن إلى الأبد على طقس ملكي صادق ؟ لماذا ترسلني إلى كاهن ، وأنت راعي الرعاة وكاهن الكهنة ؟! ما أعجبك في إخلائك لذاتك ! تتصرف كمن لا سلطة له ، وأنت مصدر كل سلطة !!
وعاش السيد المسيح بدون أي مركز إجتماعي ، ولم تكن له أية صفة رسمية على الإطلاق . حتى في وضعه كمعلم ... لم يكن من طوائف الكتبة والفريسيين المؤتمنين على التعليم في ذلك الحين ، ولا من جماعة الكهنة الذين من أفواهم تطلب الشريعة ( أر18 : 18 ) ، ولا من الشيوخ ولا من البارزين في المجتمع ...
وعلى الرغم من كل ذلك ، ملأ الدنيا تعليماً ، وكانوا يلقبونه بالمعلم ، والمعلم الصالح ، ودعي معلماً حتى من أصحاب المكانة العلمية كالكتبة والفريسيين ...
وهكذا أرانا كيف يمكن أن يعيش الشخص بلا لقب ، ومع ذلك يعمل أكثر من أصحاب الألقاب ! ...
وفي حياته كمعلم ، عاش وقد أخلي ذاته من كل شئ .
لم يكن له مكان يعلم فيه ...
أحياناً كان يعلم وهو جالس على الجبل ، وأحياناً يكلم الناس وهو واقف في سفينة وهم جلوس على الشاطئ ... وأحياناً كان يعلم وهو في وسط الزروع والبساتين ، يتأمل مع تلاميذه زنابق الحقل وطيور السماء ... وأحياناً كان يعلم في الخلاء ، في موضع قفر ، في البرية . وأحياناً في الطريق ... وعلى العموم لم يكن له مكان خاص للتعليم ، لا مركز ثابت ... بل لم يكن له أين يسند رأسه ( لو9 : 58 ) .
وإذ أخلي ذاته من الإرتباط بمكان معين ، عمل في كل مكان ...
عجيب أن الله الذي ملأ السموات والأرض ، لم يكن له أين يسند رأسه ...
عندما ولد يقول الكتاب : " لم يكن له موضع في البيت " ( لو2 : 7 ) . وطول فترة تجسده على الأرض لم يكن له مسكن معين . يذهب أحياناً إلى بيت سمعان ، وأحياناً إلى بستان جثماني ... ما أعجب قول الكتاب : " ومضي كل واحد إلى بيته ، أما يسوع فمضي إلى جبل الزيتون "
( يو8 : 1 ) ...
والذين كانوا يتبعونه ، كانوا يسيرون وراء المجهول ... لا يعرفون لهم موضعاً ولا مركزاً ، ولا مالية معينة ، ولا عملاً محدوداً . عندما قال السيد لمتي الللاوى : " إتبعني " ، تبعه متى ... ولو سألته : " إلى أين ؟ " لما عرف كيف يجيب ... ولو سألته ماذا ستعمل ؟ لوقف أمام علامة إستفهام لا جواب لها . لقد أراد الرب لتلاميذه أن يخلوا ذواتهم أيضاً ... هم مجرد تلاميذ ، لا يعرفون لهم عملاً سوي أن يتبعوا المسيح ، الذي لا يعرفون له وظيفة ولا عملاً رسمياً ولا مكاناً ثابتاً ...
يحيط به جماعة من المساكين :
وكما أخلي المسيح ذاته ، أحبه الذين أخلوا ذواتهم ، أو الذين لا ذوات لهم . فأحاطت به مجموعة من الفقرا والمساكين والمزدري وغير الموجود ... جماعة من جهال العالم وضعفاء العالم وأدنياء العالم ( 1كو1 : 27 ، 28 ) . وهكذا إختار تلاميذه : جماعة من الصيادين الجهلة ، كما إختار تلاميذه : جماعة من الصيادين الجهلة ، كما إختار واحداً من العشارين المرذولين .
والذين أحاطوا به كانوا من عامة الشعب : الأطفال الذين لا يعتد بهم أحد والخطاة والعشارون الذين يحتقرهم الناس ، والنساء أيضاً اللائى لم تكن لهن مكانه في المتجمع اليهودي ... وهكذا كانت نسوة كثيرات يتبعنه ( لو23 : 27 ) ... وحول صليبه وقفت النسوة لا شيوخ الشعب ... وبكت عليه بنات أورشليم ( لو22 : 28 ) ولم يبك عليه أعضاء مجلس السنهدريم !
عاش إنساناً بسيطاً بلا مركز وبلا لقب ، يحيط به أشخاص مجهولان بلا مركز وبلا لقب أيضاً
وحتى لقبه الطبيعي " إبن الله " ، لم يستخدمه كثيراً . وكان يستبدله في غالب الأحيان بلقب " إبن الإنسان " ! ...
عاش وسط الشعب ، لا وسط الرؤساء .؟ وكان قريباً من الصغار ، بعيداً عن الكبار والمعتبرين ، يحبه الشعب ويضطهده الرؤساء ... وحسناً تنبأ عنه داود قائلاً : " الأغراء قاموا على " ( مز54 : 3 ) " الرؤساء إضطهدوني بلا سبب " ( مز119 : 161 ) .
حتى الذين استضافوه كانوا من البسطاء أو من المحتقرين فدخل بيت متي ، ولم يدخل بيت بيلاطس ولا بيت هيرودس ودخل بيت زكا ، ولم يدخل بيت حنان ولا بيت قيافا ...
عاش فقيراً ...
أخلي ذاته من المال والجاه ، فعاش فقيراً لا يملك شيئاً وهو مغني الكل . حتى أنهم لما طلبوا منه الجزية لم يجد ما يعطيه لهم ، فطلب من بطرس أن يلقي الشبكة ويصطاد ويدفع لهم ( مت15 : 27 ) .
وعاش مرفوضاً .
إلى خاصته جاء ، وخاصته لم تقبله ( يو1 : 11 ) كنور أشرق في الظلمة ، والظلمة لم تدركه ( يو1 : 5 ) ، بل أحب الناس الظلمة أكثر من النور ... ( يو3 : 19 ) .
وأصبح الإتصال به تهمة ، والتلمذه له عاراً ...
حتى أن نيقوديموس عندما أراد مقابلته ، قابله في الخفاء ، سراً وليلاً ( يو3 : 2 ) وحتى أن اليهود في إهانتهم للمولود أعمي إذ آمن بالمسيح بعد شفائه ، شتموه قائلين له أنت تلميذ ذاك ( يو9 : 28 ) وهكذا أصبحت التلمذة لذلك الناصري من أنواع السب ووصمة عار . وجاء الوقت الذي أصبح فيه تلاميذه مغلقين على أنفسهم في العلية لا يستطيعون الخروج منها ، خوفاً من مسيه انتسابهم لذاك الناصري ... وهكذا وجدنا عملاقاً عظيماً كبطرس تبرأ من المسيح ومن الأنساب إليه ، وأخذ لعن ويحلف قائلاً إنه لا يعرف الرجل ( مز14 : 71 ) .
وعاش مضطهداً في حياته .
إن السيد الرب لم يخل ذاته فقط من المجد اللائق أن يحيط بلاهوته ، بل أخلي ذاته حتى من مجد البشرية أيضاً ، فكان محتقراً ومخذولاً من الناس ، رجل أوجاع ومختبر الحزن ... محتقراً فلم يعتد به ( إش53 : 2 ، 3 ) .
امسكوه مرة حجارة ليرجموه ( يو10 : 31 ) . ومرة أخري : " أخرجوه خارج المدينة وجاءوا به إلى حافة الجبل حتى يطرحوه إلى أسفل ( لو4 : 29 ) ... وطاردوه في كا مكان ، محاولين أن يصطادوه بكلمة ... ولم تكن له كرامه في وطنه .
وتقبل كل هذه الإهانات الكثيرة وهو الذي لم يفارق لاهوته ناسوته لحظة واحدة ولا طرفة عين ...
قالوا له إنك سامري وبك شيطان ! وقالوا عنه إنه أكول وشريب خمر ، ومجدف ، وضال ، وما . قالوا إنه ناقض للشريعة وكاسر للسبت ، وإنه ببعلزبول يخرج الشياطين . فبماذا الأشرار . بذلت ظهرك للسياط وخذيك أهملت للطم " ...
كيف أن هذا الذي تجثوا أمامه كل ركبه مما في السماء وما على الأرض ، الذي ليست السموات طاهرة قدامه ، كيف أنه : " لم يرد وجهه عن خزي البصاق " ؟! الجواب الوحيد أنه أخلي ذاته
وهكذا ضربوه ولطموه ... ما أعجبه في إخلائه لذاته ! يصل الأمر بخالق السماء والأرض أن يسمح لإنسان من تراب أن يصفه على وجهه ، ويقبل على وجهه ، ويقبل ذلك ويسكت ! ... " ظلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه . كشاه تساق إلى الذبح وكنعجة صامته أمام جازيها ، فلم يفتح فاه " ( إش53 : 7 ) .
ووصلت الإستهانة بإله الكل الذي أخلي ذاته ، إلى أنهم فضلوا عليه رجلاً قاتلاً ولصاً هو باراباس ، طالبين أن يصلب المسيح . بل وصلت الاستهانة بإله الكل الذي أخلي ذاته ، إلى أنهم فضلوا عليه رجلاً قاتلاً ولصاً هو باراباس ، طالبين أن يصلب المسيح . بل وصلت الاستهانه بإله الكل إلى أن أصبح ثمنه ثلاثين من الفضة ، ثمن عبد !!
إنه لم يأخذ فقط شكل العبد ، وإنما بيع أيضاً بثمن عبد .. إستغل الناس إخلاءه لذاته ... فلم يمتنع عن إخلاء ذاته ، من أجل الناس .
وكما عاش مضطهدا في حياته ، عاش مضطهداً بعد مماته أيضاً . فحتى قبره كانت تحرسه الجنود المدججة بالسلاح ، خائفين أن ( ذلك المضل !! ) يقوم "فتكون الضلالة الأخيره أشر من الأولي " ( مت27 : 63 ، 64 ) . وهكذا ختموا القبر بالأختام ، وضبطوه بالحراس ...
وهكذا لاحقوا بالشتائم بعد موته . وادعوا أن تلاميذه أتوا ليلاً وسرقوه . ودفعوا في سبيل ذلك ما دفعوه من رشوة ...
جرأة الشيطان عليه .
عبارة " أخلي ذاته " لم تنطبق عليه في فترة ميلاده فحسب ، بل صاحبه طوال حياته على الأرض في الجسد ...
ومن أجل أنه أخلي ذاته ، تجرأ الشيطان ليجربه .
ووصل الرب في إخلائه لذاته ، إلى حد أنه ترك الحرية للشيطان ، يختار الزمان والمكان ونوع التجربة ... ما أشد على النفس قول الكتاب : " ثم أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة ، وأوقفه على جناح الهيكل " وأيضاً " ثم أخذه إبليس إلى جبل عال جداً " ( مت4 : 5 ، 8 ) .
إبليس " يأخذخ " " ويوقفه " حيثما يشاء !! يا للهول ! ...
ما أشد هذا الإخلاء للذات ... من يحتمله ؟!
وإذا بهذا الإله الكامل في معرفته المخبأة فيه كل كنوز العلم والمعرفة ، يقول عنه الكتاب أن الشيطان : " أراه " جميع ممالك الأرض ومجدها !! ... " أراه " ؟! وهو الذي يري الخفيات والمكنونات ، ويعلم حتى أعماق الفكر وبواطن القلوب ...
وهذه الممالك ، التي كلها من صنعه ، وكلها له ، والتي بيده بقاؤها وإنحلالها ، يقول له الشيطان : " لك أعطي هذه جميعها " ... وتصل الجرأة بالشيطان أن يقول له : ط إن خررت وسجدت لي " !! هل إلى هذه الدرجة تصل الجرأة ؟!
ما أعجبك يارب ! من يقدر على مثل هذا الإخلاء ؟!
وأخيراً
يعوزنا الوقت إن تحدثنا عن كل نواحي إخلاء الرب لذاته ... الأمثلة عديدة ، لا تحصي ... وإخلاء الرب لذاته له جذور ممتدة في العهد القديم ، أتركها حالياً لتأملاتك الخاصة ....
العجيب أن المسيح إلهنا بقدر ما كان يخلي ذاته ، كان من الناحية الأخري يفع شأن أولاده ...
أخذ شكل العبد ، وأعطانا أن نصير شركاء الطبيعة الإلهية ! ( 2بط1 : 4 ) . حقاً كما تقول تسابيح الكنيسة " أخذ الذي لنا ، وأعطانا الذي له " . وهكذا صارت لنا شركة معه ( 1يو1 : 6 ) . وصرنا " شركاء الروح القدس " ( عب6 : 4 ) ، ( 2كو13 : 14 ) ، وشركاء في الميراث ( أف3 : 6 ) ... وصرنا جسده ، وأعضاءه ، ثابتين فيه ، كالأغصان في الكرمة ...
وصار الرب يقربنا إليه باستمرار ، ويرفعنا قدامه ...
ومع أنه إبن الله الوحيد ، الكائن في حضن الآب منذ الأزل ، يمس نفسه في غالبيه الأوقات : " إبن الإنسان " . ونحن بني الإنسان يدعونا أولاد الله ، ويكررها مرات عديدة ...
ويقول عنا نور العالم ، ويطلب إلينا أن يضئ نورنا قدام الناس ( مت5 : 14 ، 16 ) . ويدعونا أصدقاء له ، وأحباء ، وخاصته التي يحبها حتى المنتهي . ولكن الأكثر من هذا كله أن يسمح الرب بأن ندعي أخوته ! ويقول الكتاب : " ومن ثم كان ينبغي أن يشبه أخوته في كل شئ " ( عب2 : 17 ) ويقول أيضاً : " ... ليكون هو بكراً بين أخوة كثيرين " ( رو8 : 29 ) .
من هم أخوته هؤلاء ؟! هم نحن التراب والرماد ...
لو أن أحد الآباء الكهنة في أيامنا ، أرسل خطابا إلى واحد من أولاده ، يقول له فيه : " أيها الأخ العزيز " ، لصاح الناس : ما هذا التواضع العجيب وأخلاء الذات ؟! كيف يدعو إبنه أخاً له ؟! فماذا نقول إذن عن رب الأرباب عندما يدعونا إخوته ؟!
بل أكثر من هذا أن الرب كثيراً ما يختفي لنظهر نحن . فعندما ظهر الرب لشاول الطرسوسي ودعاه ، فاستجاب وقال : " ماذا تريد يارب أن أفعل " ( أع9 : 6 ) . حوله الرب إلى القديس حنانيا في دمشق قائلاً له : ط قم وأدخل المدينة فيقال " ( أع9 : 6 ) حوله الرب أن نفعل " . وظهر الرب في رؤيا لحنانيا ، وكلمة من جهة شاول ، فشفاه وعمده إليه ريالة الرب .
إن عمل الكهنوت كله ، وكل أعمال الخدمة والرعاية ، هي أعمال للرب ، يعمل فيها الله في إختفاء ، ويجعلنا نحن ظاهرين في الصورة . هو يعمل فينا ، وهو يعمل بنا ، وهو يعمل معنا ، ولكنه غير ظاهر ، أما نحن فنبدو للناس ، كأننا نعمل . بينما " ليس الغارس شيئاً ولا الساقي ، بل الله الذي ينمي " ( 1كو3 : 7 ) . ولكن الله كثيراً ما يعطي السلطان لأولاده ، دون أن يستخدمه مباشرة ...
والمطلوب من الخدام الذين يعمل فيهم الله في أختفاء ، أن يختفوا هم ليظهر الله .
فمجد الله لا يجوز أن يعطي لآخر . أما الخدام فعليهم أن يصلوا قائلين : " ليس لنا يارب ليس لنا ، ولكن لإسمك القدوس أعط مجداً " ( مز115 : 1 ) .
وعمل المعجزات يعلمه الله أيضاً في اختفاء عن طريق أولاده فيظهرون هم في الصورة ، أما الرب فيقول لهم في حب " من يكرمكم يكرمني " ... الله يرسل السيدة العذراء ، أو الملاك ميخائيل أو مارجرجس أو غيرهم من القديسين ، فيعلمون معجزات ، ويمجدهم الناس ، ويفرح الرب بأن أولاده يتمجدون ... بل كثيراً ما يقع إنسان في ضيقة ، فيصرخ مستغيثاً " يا مارجرجس " ، ويسمع الرب ، فيرسل مارجرجس ، فينقذه ... أو ينذر إنسان نذراً للعذراء ... ويفرح الرب ويستجيب ...
بل أن الكنائس ـ وهي كنائس الله ـ سمح أن تبني على أسماء أولاده . فنقول كنيسة العذراء ، وكنيسة مارجرجس ، وكنيسة الأنبا أنطونيوس ، وكنيسة مارمرقس ... وكلها بيوت للرب . ولكن الرب يفرح بأولاده ...
بل حتي شريعة الرب ينسبها أيضاً لأولده أحياناً ، فيقول -: " ناموس موسي " أو " شريعة موسى " ، بنما هي شريعة الرب لا غيره . ويقول الرب للأبرص : " قدم القربان الذي أمر به موسي " ( مت8 : 4 ) ويقول أيضاً : " موسى من أجل قساوة القربان إذن لكم أن تطلقوا نساءكم " ( مت19 : 8 ) ، بينما الذي هو الله ، والذي أمر هو الله . ولكن الله يرفع من شأن موسي ، ويضع إسمه بدلاً من نفسه ! ...
من هم هؤلاء يارب الذين تريد أن تظهرهم ؟ إنهم تراب ورماد ، عدم ليس لهم وجود ... ولكنهم أحباؤك قديسوك ...
هناك عبارة عجيبة في العهد القديم ، وقفت أمامها منذهلاً لحظات طويلة ... في قصة الله مع موسى النبي . عندما ثقلت المسئولية على موسي ، قال له الرب : " إجمع إلى سبعين رجلاً ... فأنزل وأتكلم معك هناك . وآخذ من الروح الذي عليك وأضع عليهم ، فيحملون معك ثقل الشعب " ( عد11 : 16 ، 17 ) .
تصوروا ، الله يأخذ من الروح الذي على موسى ويضع عليهم ! وما هو الروح الذي على موسى ؟ أليس من عندك يارب ؟! كيف تأخذ منه ؟ وكيف تأخذ منه أمام كل هؤلاء ؟ أعطهم أنت من عندك مباشرة كما أعطيت لموسى ، أنت يا مصدر كل عطية صالحة ، أنت مصدر الحكمة والتدبير والفهم ... كلا ، إنني آخذ أمامهم من الروح الذي على موسى ، وأضع عليهم ، وأرفع شأن موسى في أعينهم ... مبارك أنت يارب في كل تدبيرك الصالح .
الله يحب أولاده ، ويريد أن يكرمهم ، في السر والجهر .
بل أن الله كثيراً ما كان يسمي نفسه بأسماء أولاده .... فيقول : " أنا إله إبراهيم ، وإله إسحق ، وإله يعقوب " ( خر3 : 6 ) . ما هذا يارب ؟ إنهم هم الذين ينبغي أن ينتسبوا إليك ... الله يختفي ويظهر أولاده . وهم بالمثل يختفون لكي يظهر هو أنها محبة متبادلة .
ومن المظاهر العجيبة في إخلاء الرب لذاته ، ورفع شأن أولاده ، قصة عماد الرب من عبده يوحنا بن زكريا ...
يوحنا الذي لم يكن مستحقاً أن ينحني ويحل سيور حذائه ، يوحنا الذي قال له في صراحة : " أنا محتاج أن أعتمد منك " ، يقف أمامه رب المجد قائلاً : " إسمح الآن " ... فسمح له ، وإعتمد الرب منه ... يا للعجب ... رئيس الكهنة الأعظم ، وراعي الرعاة ، الكاهن إلى الأبد على طقس ملكي صادق يأتي ليعتمد من يوحنا ، بينما تنفتح السماء ، ويسمع صوت الآب قائلاً : " هذا هو إبني الحبيب الذي به سررت " ( مت3 : 13 ـ 17 ) .
كانت معمودية يوحنا للتوبة ... ولم يكن السيد المسيح محتاجاً إلى التوبة مطلقاً لأنه قدوس بلا عيب . فلماذا أعتمد ؟! الذين جاءوا إلى يوحنا ليعتمدوا جاءوا معترفين بخطاياهم ( مت3 : 6 ) . ولم تكن للرب خطايا يعترف بها ، ويتوب عنها ويعتمد بسببها ، حاشا ... فلماذا إعتمد إذن ؟!
إنه من أجلنا أخلي ذاته وأخذ شكل العبد ... وبنفس الوضع ، من أجلنا إعتمد . من أجلنا أخذ شكل الخطاة ، إذ وضع عليه إثم جميعنا ، ووقف يطلب عنا معمودية التوبة ، كنائب عن البشرية الخاطئة ...
كثيرة هي الأسباب التي لأجلها أخلي ذاته ، نذكر منها :
1 ـ لكي نستطيع أن نتمتع به ونوجد معه :
لو أنه ظهر في جلال لاهوته ، ما كان إنسان يستطيع أن يقترب إليه ... ما كان تلميذه يوحنا يجرؤ أن يتكئ على صدره ، وما كان الأطفال يسطيعون أن يجروا نحوه ويحيطوا به ويهرعوا إلى حضنه ، وما كانت المرأة الخاطئة تستطيع أن تتقدم نحوه وتمسح قدميه بشعرها . بل ما كانت العذراء تستطيع أن تحمله على كتفها أو ترضعه من ثديها .
لو كان قد نزل في قوة لاهوته ، لكان الناس يرتعبون منه ويخافون ... إن الرب عندما نزل على الجبل ليعطي الوصايا العشر . " أرتجف كل الجبل جداً ، وصار كل الجبل يدخن ، وصعد دخانه كدخان الأتون " ( خر19 : 18 ) و " أرتعد الشعب ووقفوا من بعيد . وقالوا لموسى : تكلم أنت معنا فنسمع . ولا يتكلم معنا الله لئلا نموت " ( خز20 : 18 ، 19 ) . وهكذا رأي الرب أن يخلي ذاته ، حتى يمكن للناس أن يختلطوا به دون أن ترعبهم هيبته ، أو يصدهم جلاله
إن موسى النبي ، عبد الرب ، عندما قضي معه أياماً على الجبل لأخذ اللوحين نزل فإذا وجهه يلمع لم يستطيع الناس أن يحتملوه : " فخافوا أن يقتربوا إليه " ( لذلك كان يضع على وجهه برقعاً حتى يحتمل الشعب أن ينظروا إليه ( خر34 : 29 ـ، 35 ) .
فإن كان هذا هو الجلال الذي أخذه موسى من عشرته للرب ، فماذا يكون جلال الرب نفسه ؟! وإن كان الناس لم يحتملوا النور الذي على وجه موسى وهو نازل من عند الرب ، فكيف تراهم كانوا يحتملون نور مجد الرب الذي قال عنه القديس يوحنا الرسول في رؤياه أن: " وجهه كالشمس وهي تضئ في قوتها " ( رؤ1 : 16 ) ؟!
إنه عندما ظهر لشاول الطرسوسي ، بهرت عيناه من قوة النور . وظل فترة لا يبصر والقشور تغطي عينية . فمن كان يحتمل أن يرى الرب في مجده ... من يرى الرب ويعيش ؟!
وعندما أظهر الرب شيئاً من مجد لاهوته على جبل التجلي ، كان التلاميذ مرتعبين ، ولم يكن بطرس يعلم ما يتكلم به ( مر9 : 6 ) . ولما سمعوا الصوت من السحابة : " سقطوا على وجوههم ، وخافوا جداً " ( مت17 : 6 ) . كيف كان ممكناً إذن أن يحتمل الناس مجد الرب لو لم يخل ذاته ؟ وهو أيضاً من أجل إنكاره لذاته ، لم يأخذ معه كل تلاميذه إلى جبل التجلي ، ولم يعلن هذا المجد للجميع . وحتي الذين شاهدوا مجده : " أوصاهم أن لا يحدثوا أحداً بما أبصروا إلا متى قام ... " ( مر9 : 9 ) .
إن إخفاءه لأمجاده مظهر آخر من إخلاء الذات ...
كان الرب يستطيع باستمرار أن يكون في مجد التجلي بين الناس ، ولكنه لم يفعل . كان يريد أن يتمتعوا به ، ويختلطوا به ، لا أن يهربوه .
ولماذا أيضاً أخلي ذاته ؟
2 ـ أراد أن يصحح فكرة الناس عن الألوهية :
لقد إقترب إلينا حتى لا تظل فكرة الناس عن الألوهية أن الله جبار ومخيف فأراد أن يجذبنا بالحب لا بالخوف .
أراد أن يدخل قلوبنا عن طريق محبته ، لا عن طريق مخافته . وهكذا نري أنه عندما رفضت إحدي قري السامرة أن تقبله ، رفض أن يسمع لتلميذه اللذين طلبا أن تنزل نار من السماء وتفني تلك القرية ، ووبخها قائلاً : " لستما تعلمان من أي روح أنتما " ( لو9 : 55 ) . إنه لم يشأ أن يرهب أهل السامرة بقوته ، بل أن يكسبهم بمحبته . وصبر معلمنا الصالح إلى أن جاء الوقت الذي دخل فيه أهل السامرة بالمحية والترحاب لا بالنار النازلة من السماء ...
الله لا يريد أن يكون مخيفاً بل محبوباً . الناس بطبيعتهم ينفرون ممن يخافونه . وقد يخضعون له في ذل ، لكنهم ينفرون منه في قلوبهم ...
كان التلاميذ يريدونه قوياً جباراً مهاباً ، بحسب فهمهم البشري ، لذلك انتهروا الذين قدموا الأطفال إليه . أما هو ، فقال لهم : " دعوا الأولاد يأتون إلى ولا تمنعوهم ... " . وأخذ الأولاد : " وإحتضنهم ، ووضع يديه عليهم وباركهم " ( مر10 : 13 ـ 16 ) . وكذلك عندما إنتهر التلاميذ الأعمين الصارخين نحوه ، وقف المسيح وناداهما ، وتحنن ، ولمس أعينهما فأبصره وتبعاه ( مت20 : 30 ـ 34 ) .
3 ـ وأخلي الرب ذاته لبعالج السقطة الأولي :
ماذا كانت السقطة الأولي سوي الكبرياء ، سواء سقطة الشيطان أو سقطة الإنسان ؟! فالشيطان قال في قلبه : " أصعد إلى السموات ، أرفع كرسي فوق كواكب الله ... أصير مثل العلي " ( إش14 : 13 ، 14 ) . وعندما أسقط أبوينا الأولين أغراهما بقوله : " تنفتح أعينكما ، وتكونان مثل الله ... " ( تك3 : 5 ) .
أخلي الله ذاته آخذاً صورة العبد ، لكي يعطي درساً للعبد الذي أراد أن يرفع ذاته ويصير إلهاً . وهكذا صار إبن الله الوحيد إبناً للإنسان ، ليعالج كبرياء الإنسان ويجعله إبناً لله ، بالإتضاع الذي إتضع به إبن الله ، وليس بكبرياء السقطة الأولي ...
وهكذا في إخلائه لذاته قيل إنه شابه : " أخوته " في كل شئ ... ( عب2 ك 17 ) .
إن الرب عندما يسمي عبيده ومخلوقاته أخوة له ، إنما يبكت الذين يعاملون إخوتهم كعبيد لهم ، أولئك الذين يؤلهون أنفسهم كلما ينالون مركزاً أعلي من إخوتهم ... أما السيد المسيح إلهنا فلم يفعل هكذا ... لقد أخلي ذاته ، حتى استطاع بطرس أن يأخذه إليه وينتهره قائلاً : " حاشاك يارب ... " ( مت16 : 22 ) . وسمح لكثيرين أن يجدلوه ويناقشوه ، بعكس كثرين من البشر الذين لا يقبلون جدالاً من أحد وكان تلاميذه يحاورنه حسبما يريدون حتى سموهم " الحواريين " ...
وهكذا أخلي السيد المسيح ذاته ، وصار كواحد منا ... أراد الإنسان أن يرتفع ويصير مثل الله . فنزل الله وصار مثل الإنسان ... لكي ينيله بغته ، ولكن بطريقة سليمة ، بإتضاع الله لا بأرتفاع الإنسان ....
الإنسان كان يريد أن يقف مع الله في صف واحد ... فبدلاً من أن يرتفع الإنسان ليقف مع الله ، نزل الله ليقف مع الإنسان . ليكما بنزوله يخجل الإنسان وتنسحق نفسه ويتضع قلبه . وباتضاعه يقترب إلى صورة الله المتضع . لقد أخذ الرب صورة العبد ، لكي يخفض من تشامخ السادة ...
فليتنا نتضع كلما تأملناه إخلاء الرب لذاته . ليتنا نتضع نحن الذين كلما أعطينا سلطاناً في أيدينا ، نريد أن تميد الأرض تحت أقدامنا ، وترتعش السموات من فوق ...
إن كان السيد المسيح قد أخلي ذاته ـ وفيه كل الملء ـ فنحن الفراغ ، كيف نخلي ذواتنا ؟! السيد المسيح الذي فيه كل ملء اللاهوت ، أخلي ذاته وصار في الهيئة كإنسان . وهو الإله أخذ شكل العبد ، فالعبد عندما يخلي ذاته أي شئ يكون ؟ إن سرنا الإنسان هو أن يسأل الإنسان ذاته : ما هي ذاتي حتى أخليها ؟! وعندما يشعر الإنسان أنه فراغ ، لا يوجد فيه شئ يخليه ، يكون حينئذ في طريقة إلى كل الملء ...
النزول إلى فوق :
إن السيد المسيح إلهنا ـ عندما أخلي ذاته ـ نزل من السماء إلى الأرض ، وما أبعد المدي بين الإثنين ! ونحن الذين على الأرض إن أردنا أن ننزل منها فإلي أين ننزل ، وإلى أين نهبط ؟ هل تعلمون إلى أين ننزل وإلى أين نهبط ؟ لا شك أننا في هبوطنا ، وإنما نهبط من الأرض إلى السماء . وفي نزولنا إنما ننزل من تحت إلى فوق ... !!
وهكذا نري أن السيد الرب قد غير المقاييس البشرية ، مقاييس العلو والهبوط ...
ألغاها كلها ، وغيرها إلى العكس فقال : " من يرفع نفسه يتضع ، ومن يضع نفسه يرتفع " ( مت23 : 12 ) . وقال في نفس المعني : " من أراد أن يكون فيكم عظيماً ، فليكن خادماً . ومن أراد أن يكون فيكم أولاً ، فليكن عبداً " ( مت20 : 26 ) . وقال أيضاً : " إذا أراد أحد أن يكون أولاً ، فليكن آخر الكل وخادماً للكل " ( مر9 : 35 ) .
فالشخص الذي يرفع نفسه ، إنما يهبط بمستواها الروحي . كلما إنتفخ ، يتضاءل حتى يصبح لا شئ ... مثل هذا شبهه القديس أوغسطينوس بالدخان الذي كلما يرتفع ، تتسع رقعته . وكلما تتسع رقعته يتلاشي حتى يصبح لا شئ . وقد أخذ القديس أوغسطينوس هذا التشبيه عن داود النبي عندما قال : " لأن الأرشاد يهلكون فنوا كالدخان فنوا " ( مز37 : 20 ) " كما يذري الدخان تذريهم " ( مز68 : 2 ) .
إن الذين يظنون أنهم يرفعون ذواتهم ، إنما ( يرفعونها ) إلى أسفل ، لا إلى فوق وهذا هو ما قصده الرب بقوله : " من يرفع نفسه يتضع " ...
أما المتواضعون فكلما يهبطون إلى أسفل يرتفعون إلى فوق أو ـ أن صح التعبير يهبطون إلى فوق ... هم باستمرار ينزلون إلى الأعالي الكائنة في الأعماق ، لأن السيد الرب أعطانا فكرة جديدة عن العلو والعمق ، عندما أخلي ذاته .. لقد علمنا أن العلو هو العمق ، وأن العلو والعمق ،عندما أخلي ذاته ... لقد علمنا أن العلو هو العمق ، وأن العلة يوجد تحت لا فوق ... وأعطانا مقاييس للعظمة لم تعرفها البشرية من قبل .
إن المتضعين من قبل في هبوطهم ، والمتكبرين يهبطون في صعودهم . وكل من يريد أن يصعد إلى فوق ، ويلتصق بالله ، علية أن ينزل إلى الأرض ويقول مع داود : " لصقت بالتراب نفسي " ( مز119 : 25 ) . وإلهنا البائس من المزبلة ، ليجلس مع رؤساء شعبه " ( مز113 : 7 ) .
والآن ، كيف تخلي ذاتك أيها الأخ :
إن لم تتمكن من إخلاء ذاتك بالتمام ، فعلي الأقل :
إخفض نفسك درجة عما تستحقه ، أو عما تظن أنك تستحقه ، في نظر الناس . في إحدي المرات رسم كاهن جديد ، وقضي فترة الأربعين يوماًُ في الدير . وفي تلك الفترة ـ وهو في الدير ـ سألني نصيحة له في خدمته المقلبة ، فقلت له :
كن إبناً وسط إخوتك ، وأخاً وسط أولادك " .
جرب كيف تتنازل عن حقوقك ، عما يليق بك من كرامة . وفي كل وقت ضع أمامك الآية التي تقول : " المحبة لا تطلب ما لنفسها " ( 1كو13 : 5 ) ... فلا تطلب أن تأخذ كل حقوقك ، ولا تطلب أن تدافع عن نفسك في كل شئ ...
في إخلائك لذاتك إلق عنك الأشياء التي تضخمك في نظر نفسك أو في نظر الناس ، عليك أن تتخلي عن مظاهر العظمة ، وتعيش بسيطاً ....
واعلم أن السيد المسيح في إخلائه لذاته ، أعطانا فكرة أن العظمة لا تنبع من مظاهر خارجية ، وملا من رفعة تحيط لذاته ، أعطانا فكرة أن العظمة لا تنبع من مظاهر خارجية ، وى من رفعة تحيط بالإنسان . وإنما العظمة الحقيقية تنبع من الداخل ، من كنه الذات النقية . كلما يصير القلب نقياً ، يأخذ صورة الله ، ويصير حقاً على مثال الله حسبما خلق في البدء ( تك1 : 26 ، 27 ) .
وفي كل نقاوتك وفضائلك ، إنسب الفضل كله لله لا إلى نفسك . أشعر دائماً أن الله هو العامل فيك ، وليس أنت . وأنك بدونه لا تستطيع أن تعمل شئياً .
وإذا إشتركت مع إنسان في عمل ، قدمه على نفسك في كل شئ . أعطه التفوق ، وأعطه الفضل ، وانسب إليه ما تحاولبأن تنسبه إلى نفسك من العظمة . حتول أن تختفي ليظهر الله ، ولتظهر أخوتك ...
وإن لم تستطع أن تخلي ذاتك ، فعلي الأقل لا تضع فوقها ثقلاً جديداً من الارتفاع ، حتى لا تنوء نفسك تحت ثقل إرتفاعك ..
على الأقل ... لا تكبر ذاتك . لا تتحدث عن نفسك ، لا تشرح فضائلك لا تسرد قصصاً يفهمون منها شيئاً عالياً عنك ...
ضع أمامك صورة المسيح في إخلائه لذاته ..